سامح.. تعش حميداً
د. ياسر بكار
من المشاهد التاريخية المؤثرة في السيرة النبوية، تلك اللحظات التي وقفت فيها (قريش) بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد دخوله (مكة) فاتحاً منتصراً.. فقد كانوا جميعهم يلفهم الذعر والخوف الشديد وهم يستعرضون في أذهانهم السنوات الطويلة من الأذى والعذاب الذي كالوه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، رضي الله عنهم.
ترى كيف سينتقم محمد - صلى الله عليه وسلم - منهم؟ ما العقوبة التي سينزلها بهم، والتي تتناسب مع أكثر من عشرين سنة من الإيذاء والتعذيب والحرب والتنكيل؟ عرف الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يدور في أذهان قريش؛ فسألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ وكان الحكم التاريخي المذهل: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
هكذا؛ آلام أكثر من عشرين سنة وجروحها، يتجاوز عنها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في لحظة واحدة!. بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعلّمَنا القيمة الرائعة التي تكمن وراء التسامح والعفو عن الناس؛ ذلك أن الأمر الأخر في الأحداث المؤلمة والظالمة التي نتعرض لها، هي أن الغضب ممن آلمونا يتحول إلى كراهية. وللأسف؛ تبقى هذه الكراهية لنا نحن، التي نحملها أينما ذهبنا وتبقى في قلوبنا في كل حين، وبذلك نعطي لشخص آخر الإذن ليس بإيذائنا مرة واحدة فحسب، بل بالاستمرار في التحكم في عالمنا الداخلي.
إن الكراهية تفسد حياتنا، في حين يعيش من سبّبها حياته الطبيعية كما هي!
أما التسامح فهو الوسيلة الفعَّالة لالتئام أشد الجروح النفسية إيلاماً. وهو الذي يحررنا من سجن الكراهية والخوف والشعور بالمرارة. وعندما تسامح شخصاً على ما فعله بك، فإنك في الواقع تقول له: "لم أعد أعطيك القوة والسلطة للتحكم في حياتي".
أعرف أنك تقول في نفسك: "هل أعفو عنه وكأن شيئاً لم يكن، وأحرره من إثم فعلته؟!" والسؤال هنا هو: من الذي سيتحرر؟! عندما نحتفظ بالذكرى الأليمة لشخص آذانا فإننا - ففي الواقع - نرتكب ثلاثة أخطاء:
(1) نحن نسمح لهذا الشخص أن يحتل جزءاً من عقولنا وأرواحنا، ولنا أن نسأل: هل يستحق ذلك أم لا؟!
(2) عندما تبرق تلك الذكرى المؤلمة تنبعث في أجسادنا العديد من المواد الكيميائية الضارة بها فيخلدُ لنا الألم والضرر.
(3) وأخيراً فإننا نعلن عن عجزنا وقصورنا في التعامل مع أمر مضى وانتهى.
يقول نلسون مانديلا: "عندما تحمل الشعور بالاستياء، تكن كمن يشرب سماً وينتظر من عدوه أن يموت".
خطوات عملية:
- إن أول عمل يستحق أن نقوم به هو أن نسامح أنفسنا في أمور دنيانا؛ فكم نرتكب من أخطاء وكم نخسر من أشياء، ثم نندم وننقم على أنفسنا بسبب هذه الزلات؛وهي أقدار الله أولاً وأخيراً، لقد حان الوقت أن تعفو عن نفسك، وأن ترضى بما رضيه الله لك، موقناً أن الخير فيما اختاره الله لك، ومستفيداً من أخطائك في المستقبل.
- التسامح ينمو مع الممارسة؛ لذا يجب أن تبدأ الآن، ابدأ بالتجاوز عن المضايقات الصغيرة. مارس ذلك كل يوم، عندما يتأخر صديقك عن موعده، سامحه، وعندما تتأخر الطائرة عن موعد إقلاعها، فقط انغمس في مقعدك دون ضيق، واستمتع بوقتك في المطار.
مع هذه الممارسة، سيتحول التسامح من عفو في موقف معين إلى فعل يومي، وصفة متأصلة في شخصيتنا نتجاوز بها عن أولئك الذين ضايقونا بأفعال صغيرة - كتجاوز الطريق بأسلوب خاطئ، أو تأخير مهم لعملنا - أو آذونا بظلم فاضح ترك ذكرى مؤلمة: (ظلم سياسي، تعذيب، تهجير، قتل لعزيز...).
- تقدم خطوة أخرى إلى الأمام، حتى تصل إلى أكثر الناس إيذاءً أو إيلاماً لك، تجاوز عنه.. سامحه.. كم هو أمر صعب، لكنه أمر يستحق كل معاناة.
- حاول أن تقلد ذلك الصحابي الجليل الذي بشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ولما سأله أحد الصحابة عن فعله قال: "ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي غِلاً لأحد من المسلمين". ما أروع هذا التميز!
عزيزي القارئ:
عندما تخلد إلى النوم هذه الليلة، سامح كل أولئك الذين آذوك، أو تحدثوا عنك بغير حق، أو أرادوا الإضرار بك. سامحهم وامنحهم عفوك، افعل ذلك كل ليلة، واستمتع بما سيمنحك الله جزاء تسامحك من هدوء ورضا، وسرور وحبور في الدنيا والآخرة. والله ولي التوفيق.
منقول