قال الله تعالى: (( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله و لكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب و بما كنتم تدرسون)) , فالآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) والربانيون: منسوبون إلى الرب، ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون. ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه , ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف , ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى كما هو قول الحسن أيضاً.
و الربانيون هم الراسخون في العلم الذين قال الله عنهم :(( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)) فمن فضلهم أن علمهم حملهم على الإيمان عند ورود المتشابه , فإنهم إن أشكل عليهم شيء في كتاب الله لا يتذبذبون ولا يتشككون بل هم مؤمنون في كل حال , مستيقنون عند كل مقال يرد إليهم من الكبير المتعال , لا تعتريهم الشكوك ولا تجرفهم الشبهات , يعلمون أن ما قاله الله صدق وما وعد به حق وما قضى به عدل.
والرسوخ في العلم و بلوغ مرتبة الربانية تأتي بعدة أسباب :
أولها: الدعاء... قال الله تعالى:(( وقل رب زدني علما))
وثانيهم: تقوى الله... فالله سبحانه يقول: ((واتقوا الله و يعلمكم الله))
وثالثا: العمل الدؤب لتطهير الذنوب و التحلي بصفات الربانيين... هؤلاء الذينوصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( خيركم من إذا رُئِّىَ ذُكِرَ الله) , وكان جعفر الصادق يقول: إذا وجدت من قلبى قساوة أتيت محمداً بن واسع فنظرت إلى وجهه فزادنى ذلك خشوعاً أسبوعاً, وكان ابن القيم عليه رحمة الله يقول: كنا إذا شاءت بنا الظنون وغلبتنا الهموم أتينا شيخ الإسلام ابن تيمية فما أن نجلس إليه وننظر فى وجهه حتى يعود إلى قلوبنا البِشر وإلى صدورنا الإنشراح , وكان يوسف بن يعقوب الماجِسون يقول: إن رؤية محمد بن المنكدر تنفعنى فى دينى, وهممييزون بالتقوى فيما بينهم وبين الله, والتواضع فيما بينهم و بين الناس , و الزهد بينهم و بين الدنيا , والمجاهدة بينهم و بين أنفسهم.
والربانية صفة من صفات المؤمنين وعنصر من عناصر صناعة الشخصية ولما كان لها من بليغ الأثر في تربية الفرد المسلم فقد نعتهم الله لنا في قرآنه في أكثر من موضع فقال تعالى: ((وكأيِّن من نبى قاتل معه رِِبيون كثير فما وهونوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)) , وقال الله سبحانه وتعالى ((لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت)) , وقال الله سبحانه وتعالى ((إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشو الناس واخشونِ ولا تشتروا بأيآتى ثمناً قليلا)).
هذه الآيات كلها صفات الربانيين وإذا أردت أن أتحدث عن صفات الربانيين فأول ما يأتينا من صفات الربانيين أنهم قومٌ لا تتعلق قلوبهم ببشر, ولو كانوا رسل بل تعلق قلوبهم بالله وحده , لذا كان من تربية الله للصف المسلم على الربانية ما حدث فى غزوة أحد عندما أُشِيع أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد مات فلما حدثت الفتنة و قعد من قعد عن القتال أنزل الله تعالى: (( و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)) , فأراد الله أن يربى الأمة على أن التعلق به وحده فالدين دينه والأمر أمره والشرع شرعه والهداية منه والثبات منه , فالتعلق به وليس لشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.