ملامح المنهج النبوي
وفى النقاط التالية استعراض لأهم ملامح هذا المنهج النبوي الكريم:
أولاً - التذكير بالأجر والثواب:
فرجاء مثوبة الله، وغفران الذنوب والخطايا من النعم التي ينعم الله بها على عباده المؤمنين، فعن أبى سعيد الخدري(رضي الله عنه) قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»(3).
وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه، إلا كفَّر الله بها من سيئاته»(4).
ثم إن الأجر والثواب والشهادة بالإيمان يلاحقان المسلم - إن صبر - على الشدة التي لحقته، أو المصيبة التي طالته، يقول (صلى الله عليه وسلم): «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير - وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن - إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(5).
والمؤمن يوقن أن ما ينزل به من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، وكتابة إلهية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير» (الحديد: 22).
وعرفوا من لطف ربهم أْن هذه الشدائد دروس قيّمة لهم، وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تُنضج نفوسهم، وتُصقل إيمانهم، وتُذهب صدأ قلوبهم، كما ورد في الأثر: «مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها»..
وما أبلغ ما قاله الرافعي: «ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه، وتُربيه وتُعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضا إلى غاية، ثم تنفق البيضة، فيخرج خلق آخر.. وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته: عمله أن يتكوّن فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل..
ومن مظاهر هذا اللطف والرحمة الإلهية، ما عرفه أحد السلف حين قال: «ما أُصبت في دنياي بمصيبة إلا رأيت لله فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها».
وتلك نعم تُــلابس كل مصيبة في دنيا الناس، جديرة أن تُشعر المؤمن بشعور الشكر لله، فضلاً عن الرضا بقضائه، والصبر على بلائه»(6).
ثانيًا - الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:
الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، وهو سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض.
وقد شرع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأمته أن يطلبوا النصر والتمكين من رب العالمين، وبيَّن منزلة الدعاء بأنه هو العبادة، وأنه مخ العبادة، وحذر من التفريط أو التساهل في هذا الأمر، فقال: «من لم يسأل الله يغضب عليه»(7).
وفى أوقات الكروب والشدائد، شرع لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدعاء بدعوات معينة، ففي جامع الترمذي من حديث أبى هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السماء، وإذا أجهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم». وفيه أيضًا من حديث أنس بن مالك، قال: «كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث».
نماذج من الدعاء
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم».
وفى مسند الإمام أحمد من حديث علي بن أبى طالب (رضي الله عنه) قال: «علّمني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين».
وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح»(.
وفى الساحة العملية طبق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما شرعه لأصحابه، معلمًا إياهم أن الأمر كله بيد الله وحده لتظل القلوب متعلقة بخالقها (عز وجل)، تستمد منه تبارك وتعالى قوة روحية عظيمة تفيض عليها بشرًا وأمنًا وسلامًا وثقة واطمئنانًا إلى موعود الله تبارك وتعالى.
ونلحظ هنا ملمحين من منهجه الكريم (صلى الله عليه وسلم):
أولاهما - هو الدعاء لطلب النصر واستمداد العون من الله عز وجل.
ثانيهما - الدعاء على المكذبين المعاندين والظالمين المتجبرين.
أما الملمح الأول، فمنه ما حدث يوم الطائف يوم أن أدميت عراقيبه (صلى الله عليه وسلم) بالحجارة، وتلطخ نعلاه بالدماء، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، رفع يديه يشكو إلى الله ما نزل به من ألم نفسي وجسمي: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»(9).
وإنك لتلمح - أخي - في هذا الدعاء عمق توحيد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومبلغ تجرده لله (جل وعلا)، فرضوان الله تعالى إذن هو الهدف الأعلى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو المطلب الأعظم، الذي تُسخّر له كل المطالب، «وإذا كان البلاء من الله تعالى، من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه، فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء.. وإنك لتلحظ - أيضًا - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ختم دعاءه بالكلمة العظيمة، التي علَّم أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره: «ولا حول ولا قوة إلا بك» فلا تحول للمؤمن من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولا من الخوف إلى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره إلا بالله جل وعلا..
إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعّال في مجال الحماية للإنسان، وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عُرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، فما إن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين، مع جبريل وملك الجبال»(10).
ومن هذا ما حدث يوم بدر، إذ اتجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده، ويقول في دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» فما زال رسول الله يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك»(11).
وفى رواية ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد». فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: {سيهزم الجمع ويُولون الدّبر}(12).
وهذا درس رباني مهم لكل قائد، أو حاكم، أو زعيم، أو فرد، في التجرد من النفس وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده، والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره، ويبقى مشهد نبيه - وقد سقط رداؤه عن كتفه وهو ماد يديه يستغيث بالله - يبقى هذا المشهد محفورًا بقلبه ووجدانه، يحاول تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفى مثل هذه المواطن، حيث تناط به المسؤولية، وتُلقى عليه أعباء القيادة». (13).
ومن هذا -أيضًا- ما حدث يوم الأحزاب؛ إذ جاء المسلمون يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم): هل من شيء نقوله؛ فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»(14).
وبعد أن تم لهم النصر، حمد الله عز وجل فقال - فيما يرويه أبو هريرة: (رضي الله عنه): «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده»(15).
وهكذا تلحظ - أخي الكريم - أن الدعاء والاستغاثة كانا منهجين ثابتين للنبي (صلى الله عليه وسلم) في أموره كلها، لأنه لا تجدي وسائل القوة كلها، إذا لم تتوافر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة.
ولكن ينبغي أن تلاحظ أيضًا أن الله تعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشيء استماعه لهتاف مجتهد، أن يبارك له سعيه، أو دعاء صابر: أن يُجمل له العافية.. حتى إذا لم يبق في طوق البشر مدَّخر، تدخلت العناية العليا لتقمع صغر العالم، وتقيم جانب المظلوم(16).
أما الملمح الثاني - وهو الدعاء على المكذبين المعاندين والظالمين المتجبرين، فمنه ما يرويه ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعٌ من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جَذُور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وضعه بين كتفيه، وثبت النبي (صلى الله عليه وسلم) ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة (رضي الله عنها) - وهى جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي (صلى الله عليه وسلم) ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم..
فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصلاة، قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش». ثم سمَّى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعُمارة بن الوليد». قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سُحبُوا إلى القُليب (البئر المفتوحة) - قليب بدر - ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «وأُتبع أصحابُ القليب لعنةً»(17).
وفى غزوة أُحد، وبعد أن نال المسلمين ما نالهم من الأذى والجهد والبلاء، وأصيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما أصيب به، وفُجع في عمه حمزة بن عبد المطلب، حتى نشغ من البكاء عليه(18).. صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعودًا، وتوجه النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء، على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل»، فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات:
«اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق»(19).
وهذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجلّ المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار، وأبرز ما يكون الحمد والثناء، فهو سبحانه القابض الباسط، والخافض الرافع، والمعطي المانع، والضار النافع، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.
وحينما غدر حلفاء هُذيل بأصحاب الرجيع من القراء الذين أرسلهم النبي (صلى الله عليه وسلم) معلمين ومفقّهين في غزوة الرجيع، وكانوا سبعين، فقتلوهم جميعًا، فقنت عليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهرًا كاملاً في صلاة الفجر، يدعو على قبائل سُلَيمْ التي عصت الله ورسوله.
فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قنتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وصلاة الصبح في دبر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده، من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سُليم، على رِعل وذكْوان، وعُصَيَّة، ويُؤمِّن مَنْ خلفه»(20).
وفى غزوة الأحزاب، وبعد اشتداد الحصار على المسلمين واشتداد الكرب عليهم، نجد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يتوجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء على المشركين؛ فعن عبد الله بن أبى أوفى (رضي الله عنه) قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم»(21).
دعاء المصلحين
لقد تربى الصحابة على مثل هذه المواقف العملية وعايشوها واستوعبوها وفقهوها، واقتدوا بنبيهم (صلى الله عليه وسلم)؛ فهذا خبيب بن عدى، حينما غدر به الكفار من قبيلتي عضل والقارة، دعا عليهم وهو مصلوب قائلاً: «اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا»(22).
وهذا إمامنا الشهيد حسن البنا (رحمه الله) يعلّم إخوانه وأحباءه. كما تعلم وفَقِهَ من سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يدعو على الظالمين المتجبرين، والطغاة الظالمين، والغاصبين المحتلين في الركعة الأخيرة من كل صلاة، وبخاصة الصلوات الجهرية، وبعد القيام من الركوع أن يُفرِّج الله عنهم الكُربة، ويكشف الغمة.
وقد وضع الإمام البنا صيغة للدعاء في هذا القنوت، يدعو بها وبمثلها المصلون، ونصها: «اللهم ربّ العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبّل دعاءنا، وأجب نداءنا، اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين - ويسمي هنا أسماء هؤلاء الغاصبين من الإنجليز والأمريكان واليهود - قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.. اللهم فردّ عنا كيدهم، وفُلّ حدهم، وأذل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، وخذهم ومَنْ وادَّهم أو عاونهم أو ناصرهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من عبادك المؤمنين».
وبمثل هذا يتعبد الدعاة، ويُعبِّدون الناس جميعًا لله، وهذا من واجبات الدعاة في مثل هذه المرحلة التي تمر بها أمتنا: تذكير الناس بآداب الدعاء ومقاماته مع البلاء وأوقات الإجابة وتعليمهم كيف ينصرون قضاياهم وينصرون إخوانهم.. ولو بالدعاء!
...........
الحواشي:
(1) الرحيق المختوم، لفضيلة الشيخ صفى الرحمن المباركفوري، ص78، ط. دار الوفاء بمصر 1415هـ - 1995م.
(2) سنن الترمذي (4/645) ورقمه (2472)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5001).
(3) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(4) رواه مسلم برقم 2573 .
(5) رواه مسلم.
(6) الإيمان والحياة، للدكتور يوسف القرضاوي، ص 187، 188، ط9، مكتبة وهبة، القاهرة 1410هـ - 1990م بتصرف يسير.
(7) رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبى هريرة.
( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن قيم الجوزية، ص24، 25، ط. دار إحياء الكتب العربية.
(9) الرحيق المختوم، ص 149.
(10) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور محمد على الصلابى، ط1، دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، ج1، ص259، 260 بتصرف يسير.
(11) صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة ببدر (3/384).
(12) صحيح البخاري، كتاب المغازى، باب قصة بدر (5/6)، رقم (3953).
(13) السيرة النبوية، مرجع سابق، ج2، ص24، وعزاه المؤلف إلى التربية القيادية (3/36).
(14) أخرجه الإمام أحمد (3/3) وابن أبى حاتم في تفسيره من حديث أبى سعيد الخدري بإسناد حسن.
(15) صحيح البخاري، كتاب المغازي باب غزوة الخندق، رقم 4114.
(16) فقه السيرة للشيخ الراحل محمد الغزالي (رحمه الله) ص346، ط2، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع بالإسكندرية، بتصرف يسير.
(17) رواه البخاري في صحيحه برقم 520 (فتح الباري 1/594).
(18) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشى.
(19) السيرة النبوية، ج2، ص143، 144، وانظر فقه السيرة ص303، الرحيق المختوم ص331، 332، كما رواه أيضًا: الإمام أحمد في مسنده 3/424.
(20) سنن أبى داود في الصلاة، باب القنوت في الصلوات برقم (1443).
(21) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5/59) رقم (4114).
(22) البخاري (7/303 - 308)، وانظر فقه السيرة، ص315.
وفى النقاط التالية استعراض لأهم ملامح هذا المنهج النبوي الكريم:
أولاً - التذكير بالأجر والثواب:
فرجاء مثوبة الله، وغفران الذنوب والخطايا من النعم التي ينعم الله بها على عباده المؤمنين، فعن أبى سعيد الخدري(رضي الله عنه) قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»(3).
وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه، إلا كفَّر الله بها من سيئاته»(4).
ثم إن الأجر والثواب والشهادة بالإيمان يلاحقان المسلم - إن صبر - على الشدة التي لحقته، أو المصيبة التي طالته، يقول (صلى الله عليه وسلم): «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير - وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن - إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(5).
والمؤمن يوقن أن ما ينزل به من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، وكتابة إلهية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير» (الحديد: 22).
وعرفوا من لطف ربهم أْن هذه الشدائد دروس قيّمة لهم، وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تُنضج نفوسهم، وتُصقل إيمانهم، وتُذهب صدأ قلوبهم، كما ورد في الأثر: «مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها»..
وما أبلغ ما قاله الرافعي: «ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه، وتُربيه وتُعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضا إلى غاية، ثم تنفق البيضة، فيخرج خلق آخر.. وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته: عمله أن يتكوّن فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل..
ومن مظاهر هذا اللطف والرحمة الإلهية، ما عرفه أحد السلف حين قال: «ما أُصبت في دنياي بمصيبة إلا رأيت لله فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها».
وتلك نعم تُــلابس كل مصيبة في دنيا الناس، جديرة أن تُشعر المؤمن بشعور الشكر لله، فضلاً عن الرضا بقضائه، والصبر على بلائه»(6).
ثانيًا - الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:
الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، وهو سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض.
وقد شرع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأمته أن يطلبوا النصر والتمكين من رب العالمين، وبيَّن منزلة الدعاء بأنه هو العبادة، وأنه مخ العبادة، وحذر من التفريط أو التساهل في هذا الأمر، فقال: «من لم يسأل الله يغضب عليه»(7).
وفى أوقات الكروب والشدائد، شرع لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدعاء بدعوات معينة، ففي جامع الترمذي من حديث أبى هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السماء، وإذا أجهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم». وفيه أيضًا من حديث أنس بن مالك، قال: «كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث».
نماذج من الدعاء
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم».
وفى مسند الإمام أحمد من حديث علي بن أبى طالب (رضي الله عنه) قال: «علّمني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين».
وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح»(.
وفى الساحة العملية طبق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما شرعه لأصحابه، معلمًا إياهم أن الأمر كله بيد الله وحده لتظل القلوب متعلقة بخالقها (عز وجل)، تستمد منه تبارك وتعالى قوة روحية عظيمة تفيض عليها بشرًا وأمنًا وسلامًا وثقة واطمئنانًا إلى موعود الله تبارك وتعالى.
ونلحظ هنا ملمحين من منهجه الكريم (صلى الله عليه وسلم):
أولاهما - هو الدعاء لطلب النصر واستمداد العون من الله عز وجل.
ثانيهما - الدعاء على المكذبين المعاندين والظالمين المتجبرين.
أما الملمح الأول، فمنه ما حدث يوم الطائف يوم أن أدميت عراقيبه (صلى الله عليه وسلم) بالحجارة، وتلطخ نعلاه بالدماء، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، رفع يديه يشكو إلى الله ما نزل به من ألم نفسي وجسمي: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»(9).
وإنك لتلمح - أخي - في هذا الدعاء عمق توحيد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومبلغ تجرده لله (جل وعلا)، فرضوان الله تعالى إذن هو الهدف الأعلى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو المطلب الأعظم، الذي تُسخّر له كل المطالب، «وإذا كان البلاء من الله تعالى، من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه، فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء.. وإنك لتلحظ - أيضًا - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ختم دعاءه بالكلمة العظيمة، التي علَّم أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره: «ولا حول ولا قوة إلا بك» فلا تحول للمؤمن من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولا من الخوف إلى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره إلا بالله جل وعلا..
إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعّال في مجال الحماية للإنسان، وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عُرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، فما إن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين، مع جبريل وملك الجبال»(10).
ومن هذا ما حدث يوم بدر، إذ اتجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده، ويقول في دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» فما زال رسول الله يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك»(11).
وفى رواية ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد». فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: {سيهزم الجمع ويُولون الدّبر}(12).
وهذا درس رباني مهم لكل قائد، أو حاكم، أو زعيم، أو فرد، في التجرد من النفس وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده، والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره، ويبقى مشهد نبيه - وقد سقط رداؤه عن كتفه وهو ماد يديه يستغيث بالله - يبقى هذا المشهد محفورًا بقلبه ووجدانه، يحاول تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفى مثل هذه المواطن، حيث تناط به المسؤولية، وتُلقى عليه أعباء القيادة». (13).
ومن هذا -أيضًا- ما حدث يوم الأحزاب؛ إذ جاء المسلمون يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم): هل من شيء نقوله؛ فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»(14).
وبعد أن تم لهم النصر، حمد الله عز وجل فقال - فيما يرويه أبو هريرة: (رضي الله عنه): «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده»(15).
وهكذا تلحظ - أخي الكريم - أن الدعاء والاستغاثة كانا منهجين ثابتين للنبي (صلى الله عليه وسلم) في أموره كلها، لأنه لا تجدي وسائل القوة كلها، إذا لم تتوافر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة.
ولكن ينبغي أن تلاحظ أيضًا أن الله تعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشيء استماعه لهتاف مجتهد، أن يبارك له سعيه، أو دعاء صابر: أن يُجمل له العافية.. حتى إذا لم يبق في طوق البشر مدَّخر، تدخلت العناية العليا لتقمع صغر العالم، وتقيم جانب المظلوم(16).
أما الملمح الثاني - وهو الدعاء على المكذبين المعاندين والظالمين المتجبرين، فمنه ما يرويه ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعٌ من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جَذُور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وضعه بين كتفيه، وثبت النبي (صلى الله عليه وسلم) ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة (رضي الله عنها) - وهى جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي (صلى الله عليه وسلم) ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم..
فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصلاة، قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش». ثم سمَّى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعُمارة بن الوليد». قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سُحبُوا إلى القُليب (البئر المفتوحة) - قليب بدر - ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «وأُتبع أصحابُ القليب لعنةً»(17).
وفى غزوة أُحد، وبعد أن نال المسلمين ما نالهم من الأذى والجهد والبلاء، وأصيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما أصيب به، وفُجع في عمه حمزة بن عبد المطلب، حتى نشغ من البكاء عليه(18).. صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعودًا، وتوجه النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء، على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل»، فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات:
«اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق»(19).
وهذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجلّ المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار، وأبرز ما يكون الحمد والثناء، فهو سبحانه القابض الباسط، والخافض الرافع، والمعطي المانع، والضار النافع، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.
وحينما غدر حلفاء هُذيل بأصحاب الرجيع من القراء الذين أرسلهم النبي (صلى الله عليه وسلم) معلمين ومفقّهين في غزوة الرجيع، وكانوا سبعين، فقتلوهم جميعًا، فقنت عليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهرًا كاملاً في صلاة الفجر، يدعو على قبائل سُلَيمْ التي عصت الله ورسوله.
فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قنتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وصلاة الصبح في دبر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده، من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سُليم، على رِعل وذكْوان، وعُصَيَّة، ويُؤمِّن مَنْ خلفه»(20).
وفى غزوة الأحزاب، وبعد اشتداد الحصار على المسلمين واشتداد الكرب عليهم، نجد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يتوجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء على المشركين؛ فعن عبد الله بن أبى أوفى (رضي الله عنه) قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم»(21).
دعاء المصلحين
لقد تربى الصحابة على مثل هذه المواقف العملية وعايشوها واستوعبوها وفقهوها، واقتدوا بنبيهم (صلى الله عليه وسلم)؛ فهذا خبيب بن عدى، حينما غدر به الكفار من قبيلتي عضل والقارة، دعا عليهم وهو مصلوب قائلاً: «اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا»(22).
وهذا إمامنا الشهيد حسن البنا (رحمه الله) يعلّم إخوانه وأحباءه. كما تعلم وفَقِهَ من سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يدعو على الظالمين المتجبرين، والطغاة الظالمين، والغاصبين المحتلين في الركعة الأخيرة من كل صلاة، وبخاصة الصلوات الجهرية، وبعد القيام من الركوع أن يُفرِّج الله عنهم الكُربة، ويكشف الغمة.
وقد وضع الإمام البنا صيغة للدعاء في هذا القنوت، يدعو بها وبمثلها المصلون، ونصها: «اللهم ربّ العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبّل دعاءنا، وأجب نداءنا، اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين - ويسمي هنا أسماء هؤلاء الغاصبين من الإنجليز والأمريكان واليهود - قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.. اللهم فردّ عنا كيدهم، وفُلّ حدهم، وأذل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، وخذهم ومَنْ وادَّهم أو عاونهم أو ناصرهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من عبادك المؤمنين».
وبمثل هذا يتعبد الدعاة، ويُعبِّدون الناس جميعًا لله، وهذا من واجبات الدعاة في مثل هذه المرحلة التي تمر بها أمتنا: تذكير الناس بآداب الدعاء ومقاماته مع البلاء وأوقات الإجابة وتعليمهم كيف ينصرون قضاياهم وينصرون إخوانهم.. ولو بالدعاء!
...........
الحواشي:
(1) الرحيق المختوم، لفضيلة الشيخ صفى الرحمن المباركفوري، ص78، ط. دار الوفاء بمصر 1415هـ - 1995م.
(2) سنن الترمذي (4/645) ورقمه (2472)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5001).
(3) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(4) رواه مسلم برقم 2573 .
(5) رواه مسلم.
(6) الإيمان والحياة، للدكتور يوسف القرضاوي، ص 187، 188، ط9، مكتبة وهبة، القاهرة 1410هـ - 1990م بتصرف يسير.
(7) رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبى هريرة.
( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن قيم الجوزية، ص24، 25، ط. دار إحياء الكتب العربية.
(9) الرحيق المختوم، ص 149.
(10) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور محمد على الصلابى، ط1، دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، ج1، ص259، 260 بتصرف يسير.
(11) صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة ببدر (3/384).
(12) صحيح البخاري، كتاب المغازى، باب قصة بدر (5/6)، رقم (3953).
(13) السيرة النبوية، مرجع سابق، ج2، ص24، وعزاه المؤلف إلى التربية القيادية (3/36).
(14) أخرجه الإمام أحمد (3/3) وابن أبى حاتم في تفسيره من حديث أبى سعيد الخدري بإسناد حسن.
(15) صحيح البخاري، كتاب المغازي باب غزوة الخندق، رقم 4114.
(16) فقه السيرة للشيخ الراحل محمد الغزالي (رحمه الله) ص346، ط2، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع بالإسكندرية، بتصرف يسير.
(17) رواه البخاري في صحيحه برقم 520 (فتح الباري 1/594).
(18) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشى.
(19) السيرة النبوية، ج2، ص143، 144، وانظر فقه السيرة ص303، الرحيق المختوم ص331، 332، كما رواه أيضًا: الإمام أحمد في مسنده 3/424.
(20) سنن أبى داود في الصلاة، باب القنوت في الصلوات برقم (1443).
(21) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5/59) رقم (4114).
(22) البخاري (7/303 - 308)، وانظر فقه السيرة، ص315.