أنزل الله تعالى كتابه الكريم نورًا وسراجًا منيرًا يضيء للقاصدين ويرشد الغافلين ، ورغّب في الاشتغال به وفي ملازمته وتلاوته ، فقال نبيه صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو" ([1]) ، وقال : "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" ([2]) إلى غير ذلك من النصوص السنية.
وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين أحرص الناس على المحافظة على تلاوة كتاب الله تعالى والإكثار منها، ونقل عنهم في ذلك عادات مختلفة فمنهم من كان يختم في كل شهرين ختمة واحدة وعن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، وعن بعضهم في كل ثمان ليال وعن الأكثرين في كل سبع ليال ، ونقل غير ذلك ([3])).
ومن أفضل القربات والسُّنن الحسنات أن يجمع الإنسان بين الحُسنيين: الصلاة ، وقراءة القرآن، فيحرص على ختم القرآن الكريم في صلاته، ولما كان من غير المتيسر لكل واحد أن يقوم بذلك من حفظه جاء السؤال عن إمكانية الاستعانة بالقراءة من المصحف في الصلاة ، وذلك عن طريق حمله في اليد ، أو وضعه على حامل يُمَكِّن المصلي من القراءة.
والمعتمد هو جواز القراءة من المصحف في الصلاة للإمام والمنفرد لا فرق في ذلك بين فرض ونفل وبين حافظ وغيره.
وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كان يؤمها عبدها ذكوان ويقرأ من المصحف([4]).
وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف , فقال : "كان خيارنا يقرءون في المصاحف" ([5]).
وقراءة القرآن كما أنها عبادة فإن النظر في المصحف عبادة أيضًا ، وانضمام العبادة إلى العبادة لا يوجب المنع ، بل يوجب زيادة الأجر ؛ إذ فيه زيادة في العمل من النظر في المصحف وحمله.
قال الغزالي: " وقد قيل الختمة في المصحف بسبع ؛ لأن النظر في المصحف أيضاً عبادة" ([6]).
وكذلك فإن ما جازت قراءته ظاهرًا جاز نظيره ([7])، والمقصود حصول القراءة ، فإذا حصل هذا المقصود عن طريق النظر في مكتوب كالمصحف كان جائزًا ، والقاعدة أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد.
هذا هو مذهب الشافعية، والمفتى به في مذهب الحنابلة، ونقل عن عطاء ويحيى الأنصاري من فقهاء السلف([8]).
قال الإمام النووي من الشافعية: "لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته ، سواء كان يحفظه أم لا ، بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة ، ولو قلب أوراقه أحيانًا في صلاته لم تبطل"([9]) .
وجاء في كشاف القناع من كتب الحنابلة: "وله أي المصلي القراءة في المصحف ولـو حافظًا ... والفرض والنفل سواء قاله ابن حامد" ([10]).
ورأى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن القراءة من المصحف في الصلاة تفسدها، وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية، واستَدَل على ذلك بأدلة:
أولها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" ([11])، فالصلاة شاغلة عن كل عمل لم يأت فيه نص بإباحته ، والنظر في المصحف عمل لم يأت بإباحته في الصلاة نص.
الثاني: أن من لا يحفظ القرآن لم يكلفه الله تعالى قراءة ما لا يحفظ , لأنه ليس ذلك في وسعه. قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] فإذا لم يكن مكلفا ذلك فتكلفه ما سقط عنه : باطل ([12]).
أما الدليل الأول: فلو سلمنا أن النظر في المصحف في الصلاة لم يأت نص في إباحته بخصوصه ، لكن ليس كل ما لم يرد فيه نص بإباحته بخصوصه يكون فعله مبطلا للصلاة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في إباحة العمل اليسير في الصلاة مما ليس من جنسها ولم يحكم ببطلانهـا , منها ما ورد أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع , فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها ([13]) , ومنها حديث ابن عباس أنه قام يصلي إلى شق النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر فأخذ بيده من وراء ظهره يعدله إلى الشق الأيمن ([14]) ، ومنها أن الأنصار كانوا يدخلون عليه وهو يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده ([15]) ، ومنها أمره بقتل الأسودين في الصلاة الحية و العقرب ([16]) ، وأمره بدفع المار بين يدي المصلي ([17]) ، وغيرها.
فإذا كانت هذه النصوص قد وردت في أعمال أفحش من مجرد النظر ولم تبطل بها الصلاة ، فإن عدم إبطال الصلاة بالنظر أولى ، وإذا كان هذا النظر لمصلحة متعلقة بالصلاة ، كالنظر في المصحف لغرض التلاوة فالأولوية آكد .
قال الإمام النووي رحمه الله: " الفكر والنظر لا تبطل الصلاة بالاتفاق إذا كان في غير المصحف ، ففيه أولى " ([18]).
كما أن الإنسان ليس مطالبا بإغماض عينيه أصالة في الصلاة ، مما يلزم منه عدم منعه من أي نظر لم يمنعه منه الشرع، فالشرع نهى المصلي عن النظر للسماء ، قال عليه الصلاة والسلام: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم .. لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" ([19]) ، واعتَبَر تسريح البصر فيما يلهي المصلي من الكائنات والزخارف مكروهًا ؛ لمنافاته الخشوع المطلوب ، ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي " ([20]) ، أما النظر في المصحف فليس فيه معنى يمنعه الشرع فتحتم بقاؤه على أصل الجواز .
وأما الدليل الثاني: فيناقش بأن قراءة المصلي من حيث هي مطلوب للشارع ، إما على وجه الوجوب كالفاتحة في كل ركعة ، أو على وجه الندب كقراءة ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة في المواضع التي يطلب فيها ذلك. والمقرر أن الواجبات والمندوبات ضربان : أحدهما مقاصد , والثاني وسائل ، وللوسائل أحكام المقاصد , والشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد ([21]).
وعليه فالنظر في المصحف يكون مطلوبا للشارع لأنه وسيلة إلى مطلوب آخر مقصود وهو القراءة ، وليس في ذلك تكليف للإنسان بما ليس في وسعه ، ولا يقال إن القراءة من المصحف في الصلاة تَكَلُّفٌ من المكلف لما سقط عنه ؛ لأن هذه القراءة على أقل أحوالها تكون مندوبة ، والندب من الأحكام التكليفية بمعنى طلب الفعل لا على سبيل الحتم والإلزام ، والله أعلم.
ولأبي حنيفة في علة الفساد وجهان:
أحدهما: أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير.
الثاني: أنه تلقن من المصحف، فصار كما إذا تلقن من غيره، وعلى هذا الثاني لا فرق بين الموضوع والمحمول عنده، وعلى الأول يفترقان.
وربما يستدل لأبي حنيفة بما أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن ابن عباس قال: "نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصحف" ، فإن الأصل كون النهي يقتضي الفساد ([22]).
واستُثني من ذلك ما لو كان حافظًا لما قرأه ، وقرأ بلا حمل فإنه لا تفسد صلاته; لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقنه من المصحف، ومجرد النظر بلا حمل غير مفسد لعدم وجهي الفساد ([23]).
ويُناقش الوجه الأول بمنع أن يكون حمل المصحف وتقليب أوراقه عملًا كثيرًا مبطلا للصلاة، أما الحمل فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملًا أُمامة بنت أبي العاص على عاتقه فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها ([24])، وأما تقليب أوراق المصحف فقد مر قريبًا بعض الأحاديث الدالة على إباحة العمل اليسير في الصلاة ، والتقليب هو من جنس هذا العمل اليسير المغتفر.
وقد اختلف فقهاء الحنفية أنفسهم في ضابط القلة والكثرة على ثلاثة أقوال:
(الأول) أن ما يقام باليدين عادة كثير وإن فعله بيد واحدة كالتعمم ولبس القميص ، وما يقام بيد واحدة قليل وإن فعل بيدين كلبس القلنسوة ونزعها. وكل ما يقام بيد واحدة فهو يسير ما لم يتكرر.
(والثاني) أن يفوض إلى رأي المصلِّي فإن استكثره كان كثيرًا وإن استقله كان قليلًا.
(والثالث) أنه لو نظر إليه ناظر من بعيد إن كان لا يشك أنه في غير الصلاة فهو كثير مفسد وإن شك فليس بمفسد ([25]).
وعلى أي من هذه الأقوال الثلاثة فإن القراءة من المصحف لا يلزم أن تصل لحد الكثير ، فتقليب أوراق المصحف يكون في أضيق نطاق، وقد يُستعان على هذا بوضع المصحف ذي الخط الكبير على شيء مرتفع أمام المصلى ليقرأ منه الصفحة والصفحتين ، ولا يحتاج إلى تقليب الأوراق كثيرًا .
أما بيان الوجه الثاني في علل الفساد: هو أن التلقين المفسد للصلاة عند الحنفية هو ما كان من غير المقتدي على إمامه ؛ قال الكاساني: "لأن ذلك تعليم وتعلم ، فإن القارئ إذا استفتح غيره فكأنه يقول : ماذا بعد ما قرأت فذكرني , والفاتح بالفتح كأنه يقول : بعد ما قرأت كذا فخذ مني" ([26]) اهـ ، أما المقتدي إذا فتح على إمامه فلا تفسد الصلاة بذلك ؛ لأنه مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا من أعمال صلاته معنى ([27]) .
و من يقرأ من المصحف في صلاته فهو يلقن منه فيكون ذلك تعلمًا منه ، قال الكاساني : "لا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى متعلمًا فصار كما لو تعلم من معلِّم". اهـ ([28]).
ونحن نمنع بطلان الصلاة بالتلقن من الغير أصلا سواء كان الملقن مأمومًا أو من خارج الصلاة ؛ فعن المُسَوّر([29]) بن يزيد رضي الله عنه قال: " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلوات فترك شيئًا لم يقرأه فقال له رجل : يا رسول الله إنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا أذكرتنيها " ([30]) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضا في الصلاة ، وعنه أنه كان إذا قام يصلي قام خلفه غلام معه مصحف فإذا تعايا في شيء فتح عليه ، وعن عامر بن سعد قال: "كنت قاعدًا بمكة فإذا رجل عند المقام طيب الريح يصلي، وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه، فإذا هو عثمان رضي الله عنه([31])، كما أن التلقين ما هو إلا تنبيه للإمام بما هو مشروع في الصلاة فأشبه التسبيح ([32]) .
كما أن تعليل الحنفية عدم فساد الصلاة إذا كان الفاتح هو المقتدي بأنه مضطر إلى إصلاح صلاته تعليل قاصر لأنه لن يحتاج إلى ذلك في القراءة المندوبة ، وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة عند أبي حنيفة آية ، وعند صاحبيه ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ([33]) ، فما فوق ذلك لا يقال: إنه مضطر فيه إلى إصلاح صلاته، وإذا سلمنا أنه محتاج إلى إصلاح صلاته فيمكن أن يقال هذا أيضًا في حق المصلي عمومًا سواء تلقن ممن ائتم به أو من غيره ، وهو ما لا يقول به الحنفية.
فبان بذلك أنه لا فرق أن يكون الفاتح على الإمام من داخل الصلاة أو من خارجها، وأنه كذلك لا فرق بين القراءة عن ظهر قلب وبين القراءة من المصحف في الصلاة.
هناك تكمله ....انظر الى الردود اسفله