كتب بعض المفتونين قائلاً: " إنها لظاهرة خطيرة ومؤلمة، وهي إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي، وإمكان ركون النبي إلى فتنتهم – أي المشركين - "، واستشهد على قوله هذا بقول الله تعالى: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً }(الإسراء: 73-75 ) ثم ساق بعض الروايات المذكورة في التفاسير ليدلل على صحة كلامه، والذي يريد من ورائه التشكيك في صدقية الوحي وموثوقيته، والتشكيك في صدقية النبي – صلى الله عليه وسلم -، والتأكيد على أن النبي غير قادر على تحمل ضغط قريش .
وللرد على هذا الافتراء لابد أن نقف مع الآية وقفة موضوعية توضح معانيها، وتضعها في سياقها، ومن خلال هذه الوقفة سيتضح بطلان ما ذكره الطاعنون. حيث وردت الآية في سياق الحديث عن الكفار في الآخرة، وذلك في قوله تعالى:{ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً } والتي أعقبتها الآية محل البحث، وكان فيها انتقالاً واضحاً من الكلام عن الكفار في الآخرة إلى ذكر بعض أفعالهم في الدنيا، ولعل ذلك كان بمثابة التعليل لما يصيبهم في الآخرة من عذاب وعمى، حيث ذكر سبحانه أن الكفار بعد أن عجزوا عن ثني النبي عن دعوته، وعجزوا عن التأثير عليه بتعذيب أصحابه لجؤوا إلى سياسية اللين، حيث حاولوا ثني النبي – صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما أوحي إليه { عن الذي أوحينا إليك }، من غير أن تبين الآية ما هو الشيء الذي طلبوا من النبي تغييره، وما هو الشيء الذي طلبوا إضافته للوحي { لتفتري علينا غيره } إلا أن السياق العام يدل على أنهم طلبوا من النبي تنازلاً ما تجاه آلهتهم الباطلة، وبالغوا في الأمر فطلبوا أن ينسب النبي هذا التنازل إلى الله، وجعلوا جائزة ذلك رضاهم وكف أذاهم عنه، ومصاحبتهم له { وإذا لاتخذوك خليلاً } إلا أن الله ثبته على الحق { ولولا أن ثبتناك }، ونبهه إلى خطورة هذا المسلك، ووعظه في ذلك: { إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } فكانت هذه الآية بمثابة إعلام للأمة بأن الله حفظ كتابه، وامتنان من الله لنبيه على هذا الحفظ والتثبيت، فليس في الآية إذاً ما يمكن أن يشكل طعنا في الوحي، أو تشكيكا في النبي، كيف والآية صريحة أن الذي وقع من النبي من ميل لموافقتهم، لم يعدوا أن يكون حديث نفس لم يترجم إلى واقع عملي، أو تعهد لفظي، بل كان مجرد هم وربما خاطر سرعان ما نزل التثبيت الإلهي ليقطعه وليؤكد حفظ الله لنبيه ولكتابه، فالآية تدل على عكس ما يقوله الطاعنون .
وأما أسباب نزول الآية فهي ضعيفة، وإن ذكرها المفسرون، فإنهم يذكرون ما ثبت وما لم يثبت، فمما ذكره المفسرون في أسباب نزول الآية رواية سعيد قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندعه حتى يلم – يمس - آلهتنا، فحدث نفسه، وقال: ما علي أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، والله يعلم أني لها كاره، فأبى الله، فأنزل الله: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } الآية.
وهذه الرواية كما ترى مرسلة فسعيد وهو ابن جبير لم يدرك عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه وعن الأحداث الواقعة في زمنه – عليه الصلاة والسلام – مرسلة، والمرسل من أقسام الضعيف، وعليه فالرواية من جهة السند لا تصح . وعلى فرض صحتها فحديث النبي لنفسه بموافقتهم كان اجتهاداً منه – عليه الصلاة والسلام – إذ ظن أن مس آلهتهم سوف يجلب مصالح شرعية منها: تمكينه من استلام الحجر، وهو عبادة وقربة، والمصلحة الثانية: تليين قلوب المشركين عليه وعلى أتباعه بما يزيد من احتمال إسلامهم وتخفيف معارضتهم للدعوة . وقد تقرر في أصول الفقه جواز اجتهاد النبي فيما لم ينزل عليه فيه شيء إلا أن الله يثبته على اجتهاده، أو يرشده إلى سبيل الصواب فيه، وهو ما حدث هنا؛ إذ نهاه عن إجابة المشركين إلى ما طلبوا؛ لما سيترتب على ذلك من نتائج سلبية تضر بالدعوة، وفي مقدمة تلك النتائج السلبية فتنة المؤمنين عن دينهم، بقول المشركين لهم: إن نبيكم وقدوتكم قد استلم آلهتنا وعظمها، وتخلى عما كان يدعو إليه، وفي ذلك أعظم الفتنة وأسوأ الأثر .
ومما ذكره المفسرون في سبب نزول الآية رواية قتادة - رحمه الله - قال: ذُكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إلى الصبح، يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه، وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا يكلمونه حتى كاد أن يقارفهم – يوافقهم -، ثم منعه الله وعصمه من ذلك .
والكلام في هذه الرواية كالكلام في رواية سعيد سنداً ومتنا فقتادة وهو ابن دعامة السدوسي تابعي ثقة لم يلق النبي – صلى الله عليه وسلم – فحديثه مرسل، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، والكلام في المتن لا يختلف عن سابقه غير أن الرواية السابقة فصلت ما طلب المشركون من النبي، وهذه أجملت .
ومما ذكروه أيضاً رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - وهي أن: ثقيفاً كانوا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهدى لآلهتنا أخذناه، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيهم، وأن يؤجلهم، فقال الله: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً } .
وهذه الرواية وإن كانت مسندة إلا أن الطبري ألمح إلى ضعفها في تفسيره، هذا من جهة الكلام في سند الرواية أما الكلام في متنها فهي داخلة ضمن الاجتهاد المشروع للنبي – صلى الله عليه وسلم – ووجه الاجتهاد في ذلك أن القوم كانوا كفاراً، وترك النبي – صلى الله عليه وسلم - قتالهم سنة – على القول بأن هذه الآيات مدنية - غير مضرٍ، طالما أنهم بعد هذه المدة سيسلمون طواعية . هذا وجه اجتهاد النبي – صلى الله عليه وسلم - إلا أن الله نهاه عن إجابتهم، لما يحمل هذا الإذن من معنى الرضا بالكفر، والسماح بوجوده، وربما تشوفت قبائل أخرى غير ثقيف لتحصيل مثل هذا التأجيل، بما يؤدي إلى تعطيل جهاد الكفار .
وبهذا يظهر ألا مطعن في مدلول الآية الكريمة التي استشهدوا بها، بل على العكس، فالآية تدل على حفظ الله لنبيه من أن تزيغه الأهواء، وحفظه لكتابه أن يدخل فيه ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه، وهو حفظ تكفل الله به لنبيه وللأمة جمعاء، حتى يصل كتاب الله إلى البشر جميعا صافيا نقياً كما أنزل من غير زيادة ولا نقصان .