{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها. يقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك. وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحربًا وسلمًا، وصحة ومرضًا، وعملًا صالحًا وعملًا سيئًا إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل "ال" كلمة "كل" فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الآية الكريمة أن الله أقسم قسمًا على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لَفِي خُسْرٍ} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن "في" للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع: الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلّم - حين سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيمانًا لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيمانًا لا شك فيه ولا تردد. والقسم الثاني: كافر جاحد منكر. والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيمانًا لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضًا، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد"، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالًا؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلًا، بهمًا. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهم عراة قالت عائشة: (يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "الأمر أعظم من ذلك") أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا (أن تؤمن بالله واليوم الآخر) والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذًا فالإيمان في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ. أما قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصَّالِحَاتِ} هي التي اشتملت على شيئين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ. وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصًا لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحًا في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملًا لم يعمله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد). إذًا العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي: صار بعضهم يوصي بعضًا بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطًا في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلًا لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: صبر على طاعة الله. القسم الثاني: صبر عن محارم الله. القسم الثالث: صبر على أقدار الله. الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلًا: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلًا تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضًا يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشيًا في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء. ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئًا، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لإحدى بناته: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب). الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط. فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟ فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جدًا، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد - والعياذ بالله - كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. إذًا نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : "لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم". يعني: كفتهم موعظة وحثًا على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير.
البسملة تقدم الكلام عليها. يقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك. وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحربًا وسلمًا، وصحة ومرضًا، وعملًا صالحًا وعملًا سيئًا إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل "ال" كلمة "كل" فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الآية الكريمة أن الله أقسم قسمًا على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لَفِي خُسْرٍ} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن "في" للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع: الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلّم - حين سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيمانًا لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيمانًا لا شك فيه ولا تردد. والقسم الثاني: كافر جاحد منكر. والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيمانًا لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضًا، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد"، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالًا؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلًا، بهمًا. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهم عراة قالت عائشة: (يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "الأمر أعظم من ذلك") أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا (أن تؤمن بالله واليوم الآخر) والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذًا فالإيمان في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ. أما قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصَّالِحَاتِ} هي التي اشتملت على شيئين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ. وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصًا لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحًا في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملًا لم يعمله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد). إذًا العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي: صار بعضهم يوصي بعضًا بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطًا في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلًا لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: صبر على طاعة الله. القسم الثاني: صبر عن محارم الله. القسم الثالث: صبر على أقدار الله. الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلًا: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلًا تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضًا يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشيًا في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء. ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئًا، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لإحدى بناته: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب). الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط. فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟ فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جدًا، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد - والعياذ بالله - كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. إذًا نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : "لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم". يعني: كفتهم موعظة وحثًا على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير.