انتبه من رقدتك!
من كتاب المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله
إن الدنيا مذ أبانت محبها أبانت حالها، لقد روت وما روت فأرت مآلها، لقد عرف إدبارها من قد ألف إقبالها، وما اطمأنت أرضها إلا زلزت زلزالها.
قـل لمن فاخر بالدنيا وحامى *** قتلـت قبـلك سامـا ثم حــاما
نـدفن الخِـلَّ وما في دفـننا *** بعــده شـك ولكـن نتعـامى
إن قدامــك يومـا لو بـه *** هددت شمس الضحى عادت ظلاما
فـانتبه من رقـدة اللهو وقم *** وانف عن عيـن تمـاديك المناما
صاح صِحْ بالقبر يخبرك بما *** قد حوى واقرأ على القوم السلاما
فالعظيــم القدر لو شاهدته *** لم تجـد في قبره إلا العظــاما
تالله لقد ركض الموت فأسرع في الركض، بث الجنود وطبق الأرض، ما حمل على كتيبة إلا وفضّ، ولا صاح بجيش إلا جاش وارفَضَّ، ولا لوح إلى طائر في البرج إلا انقض، إذا تكلمت قوسُه بالنَّبض أسكتت النَّبض، بينا الحياة تعرب بالرفع جعل الشكل الخفض.
أين مصون الحصون؟ أزعج عنها، أين مقصور القصور؟ أخرج منها. نقله هادم اللذات نقلا سريعا، ومَقَلَهُ في بحار الآفات مقلا فظيعا، وفرق بينه بالبيْن وبين بَنيه، وطرقه بطارق النقض فأنقض ما كان يبنيه.
لقد ولى ولاء ذي وُدّ ينفعه، وبان لباني الدنيا مصرعُه، هجره والله من هاجر إليه ونسيه نسيبُه، وقد كان يحنو عليه فلا صديقُه صَدَقه في مودّته، ولا رفيقُه أرفقه في شدته.
حُلُّوا والله بالبلاء في البلى، وودعهم من أودعهم ثم قلى، وانفردوا في الأخدود بين وحش الفلا، وسألوا الإقالة فقيل: أمّا هذا فلا.
لو نطق الموتى بعد دفنهم لندموا على غيّهم وأَفَنِهِم، ولقالوا: رحلنا عن ظلم شرورنا إلى ظلم قبورنا، وخلونا عن الأخلاء بترابنا في آفات لا ترى بنا، أفترى محبنا إذ ظعنا بمن اعتاض عنا؟ وهذا مصيرك بعد قليل، فتأهب يا مقيما للتحويل، يا سليما يظن أنه سليم! جوارحك جوارحك، سور تقواك كثير الثَّلم، وأعداؤك قد أحاطوا بالبلد.
ويحك! قبل الرمي تراش السهام، وبين العجز والتواني ينتج التوى. يا قاليَ القائل للنصائح! أداؤك داؤك، كيف تجتمع همتك مع غوغاء المنى وضوضاء الشهوات؟ كيف تتصرف في مصالحك والشواغل للشّوى غُل؟ كم صادفت الهوى فصدفت! لقد خدع قلبك الهوى فاسْتَرَقَّكَ، أضر ما عليك سوء تدبيرك.
آه للابس شعار الطرد وما يشعر به! واأسفا لمضروب ما يحس صوت السوط! عجبا لمن أصيب بعقله وعقله معه! يا فارغ البيت من القوت في أيام الحصاد!
أملي من أملي ما ينقضي *** وغرامي من غرامي قـاتلي
كلما أفنيت عـاما فـاسدا *** جاء عـام مثله من قـابـل
كلما أمّلت يومـا صالحا *** عرض المقدور لي في أملي
وأرى الأيام لا تدني الذي *** أرتجي منك وتدني أجـلي
يا جرحى الذنوب! قد عرفتم المراهم، اخرجوا من قصر مصر الهوى وقد لاحت مدينة مدين! اطلبوا بئر الشرب وإن صَدَّ الرعاء! فلعل حضور موسى يتفق. متى استقامت لكم جادة البكاء، فلا تعرجوا عنها.
كان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي رحمهما الله يبكيان الدم.
قولوا لسكـان الحي *** تبـدل الدمــع دما
وكل شهــد بعدكم *** قد صـار مرا علقما
إذا تكاثفت كثبان الذنوب في بوادي القلوب نسفها نسف أسَف في نَفَس.
لست وإن أعرضتم *** أيأس من أن تعـطفوا
فلا برى وجدي بكم *** ولا أفــاق الشـغف
وصبر يعقوب معي *** حتى يـرد يــوسف
يا من كان وقت طيب وقلب حسن، فاستحال خله خمرا! ابك على ما فقدت في بيت الأسف!
لعل انحدار الدمع يعـقب راحة *** من الوجد أو يشفي نَجِيَّ البلابل
ما أحسن ما كنت فتغيرت! ما أجود جادّتك! فكيف تعثرت؟
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى *** بأنـعم حال وغبـطة وسرور
فما برح الواشون حـتى بدت لنا *** بطون الهوى مقلـوبة لظهور
البكاء على الفائت معول الحزين.
لأبي تمام:
وأنجدتم من بعد اتهـام داركم *** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
لعمري قد أخلقتم جــدة البكا *** علي وجــددتم به خلق الوجد
يا معاشر المطرودين عن صحبة أهل الدين!
تعــالوا نقم مأتـما للفراق *** وننـدب إخـواننا الظــاعنينا
هلموا نُرِقْ دمع تأسفنا على قبح تخلفنا، ونبعث مع الواصلين رسالة محضر لعلنا نحظى بأجر المصيبة!
أنجع المراهم لجراحات الذنوب البكاء، هتكة الدمع ستر على الذنب.
قد كنت أصــون دمعتي في الآمـاق *** سترا للحـب وهو ما ليس يطاق
حتى صاح الوجد عن صحيح الأشواق *** ما حـيلة من بلى بمهجر وفراق؟
كان محمد بن المنكدر رحمه الله كثير البكاء فسئل عن ذلك فقال: آية من القرآن أبكتني "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" (سورة الزمر، الآية 47).
كيف لا تذهب العيون من البكاء وما تدري ما قد أعد لها؟ سبقت السعادة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل كونه، ومضت الشقاوة لأبي جهل قبل وجوده، وخوف العارفين سوابقُ الأقدار، قلقل الأرواحَ هيبةُ لا يُسأل، مع تحكم "ولو شئنا لأتينا كل نفس هُداها" (سورة السجدة، الآية 13).
قوي قلقُ العلماء.
أترى سـألوا لما رحـلوا *** ماذا فعـلوا أم من قتلوا
أحليفَ النـوم أقِلَّ اللـومَ *** فعنـدي اليوم بهم شغْلُ
أدنى جزعي لم يبـق معي *** قلب فيـعي منذ احـتملوا
جلدي سلبـوا جسدي نهبوا *** كمدوا وهبـوا كبدي تَبَلُوا
لمـا ذرفت عيني وقفـت *** أترى عرفت ما