إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
(الشعراء)
في ظلال آية
الحلقة الأولى
ورد الفعل (سجرت) في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت}[التكوير6]،
والفعل (فجرت) في قوله تعالى: {وإذا البحار فجرت} [الانفطار3]،
ولا نكاد نعثر على اختلاف جوهري بين دلالة الفعلين في الأياتين
فالفعل الأول يفيد أن البحور ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى صارت بحراً واحداً،
والفعل الثاني يفيد أن البحور فتحت على بعضها بعضاً فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما وصارت البحور بحراً واحداً (1).
ولما كانت الدلالتان متقاربتين إلى هذا الحد فينبغي أن نستأنس بالسياق العام للموضعين للكشف عن الإعجاز اللغوي والبلاغي لاختصاص كل موضع منهما بلفظ مختلف.
فقد ورد الفعل (سجرت) في سياق قوله تعالى:-
{ إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2)
وإذا الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4)
وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6)
وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت ( 8 )
بأي ذنب قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10)
وإذا السماء كشطت (11) وإذا الجحيم سعرت}[التكوير].
إن التأمل في دلالة مادة (سجر) يكشف عن روابط دلالية بين الفعل (سجرت) والسياق العام للآيات،
ويمكن تحديد الروابط أو الخيوط الدلالية بما هو آت:
1- النار والحرارة: تدل مادة (سجر) على النار والحرارة، فالسجر: الإتّقاد في التنور، والسجور: اسم الحطب، وسجر التنور: أوقده وأحماه (2) وهي دلالات تتقاطع مع قوله تعالى:-
{وإذا الجحيم سعرت}[التكوير12]،
ولذلك قال ابن سيده في تفسير قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت}،
"لا وجه إلا أن تكون قد ملئت ناراً" (3)
وكذلك لا تخفى حرارة الشمس في قوله تعالى: {إذا الشمس كورت}[التكوير1]،
والحرارة المنبعثة عن النجوم حين تنكدر وتقع على وجه الأرض في قوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت}[التكوير]
كما أن النار في البحار والجحيم تشكل مشهداً متكاملاً
"ليقع الوعيد بتسجير البحار وتسعير النار" (4).
2- الإبل: نقول سجرت الناقة: حنّت الناقة فطربت في إثر ولدها،
وانسجرت الإبل في السير: تتابعت،
والسّجر: ضرب من سير الإبل(5)، وهو ما يتفاعل مع قوله تعالى: -
{وإذا العشار عطلت}[التكوير]، فالعشار هي النوق الحوامل
التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر(6).
ولا يخفى التناسب بين الفعل سجرت والإبل ( العشار)
3- الوحوش: قيل في تفسير{وإذا الوحوش حشرت}،
إن الوحوش ملكت وقيّد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول،
فيكون ذلك مأخوذاً من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه،
ويقال سجره: إذا شده به (7)،
فالفعل (سجرت) يناسب حشر الوحوش.
4- الائتلاف والتقارب: تدل مادة (سجر) على ائتلاف الطباع وتقارب السجايا،
فسجير الرجل: خليله وصفيه، وساجره: صاحبه وصافاه ( 8 )،
والسجير هو الخليل الذي يسجر في مودة خليله،
كقولهم: فلان محرق في مودة فلان (9)،
وهو ما يتفاعل مع قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت}
أي "قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة،
وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار.
وقال عطاء: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين،
وقرنت نفوس المشركين بالشياطين"(10).
إن السياق هو الرحم الذي يتخلق فيه المعنى،
إذ إن المعنى في اللفظة المفردة يبقى عائماً على سطح الدلالة،
لذا ينبغي أن نبحث عن العلائق لربط السطح بالعمق،
ولا يتأتى هذا إلا بربط المفردات بالسياق،
وذلك أن "فكرة القالب أو السياق هذه فكرة هامة وخصوصاً
فيما يتعلق بصلتها بالكلمات، فالكلمات لا تعدو أن تكون رموزاً لأشياء كلية هامة.
وحينئذٍ ينبغي علينا أن نبحث عن الإطار أولاً
ثم نبحث عن الكلمات ثانياً"(11).
5- اللون: تدل مادة (سجر) على اختلاط الألوان وتداخلها؛
فالغدير الأسجر: هو الذي يضرب ماؤه إلى الحمرة،
وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت}
أنها صارت حمراء كالدم (12). وعين سجراء: إذا خالط بياضها حمرة،
أو إذا خالط بياضها زرقة، أو هي حمرة في زرقة (13)،
ويتقاطع تمازج الألوان وتداخلها مع حال الرؤية
حينما تكور الشمس وتنكدر النجوم.
إن شبكة العلاقات الدلالية بين مادة (سجر) والسياق العام لا تتوافر في مادة (فجر)، لذلك جاء الفعل (سجرت) في التكوير، وجاء الفعل (فجرت) في الانفطار. وذلك أن "البنية الدلالية تتكون من معاني النسيج كله، فلو لم تكن هناك علاقة واضحة بين الأجزاء والمجموع لما تكون هذا المجموع، ومناقشة معنى كلمة أو جملة دون ربطها بسياقها في الفقرة أو القطعة أو الفصل أو القول كله تقود إلى أخطاء متتالية في الفهم والتفسير"(14).
ولا يعني ما تقدم غياب التقاطع الدلالي بين مادة (فجر) و سياقها العام، فقد جاء الفعل (فجرت) في سياق التفرق، إذ يتناسب انفجار البحار مع انفطار السماء وانشقاقها وبعثرة القبور وانتثار النجوم (15) وذلك في قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا البحار فجرت (3) وإذا القبور بعثرت} [الانفطار]، وفي مقابل هذا التناسب تحقق تناسب بين الفعل (سجرت) والسياق العام، فقد جاء الفعل سجرت في سياق التجميع، إذ إن انفجار البحار وتحولها إلى بحر واحد، وحشر الوحوش وتجميعها وتزويج النفوس واقترانها بعضها ببعض هو اجتماع وائتلاف يناسب بعضه بعضاً(16)، وهكذا يصبح النص القرآني خلية من الألفاظ تتفاعل وتتجاذب لتبني جسداً دلالياً منظماً ومتكاملاً، إذ "إن النص لم يعد سلسلة لغوية، في هذه الحالة هو حضور واحد يلتقي نسق من أوله بنسق من آخره، تسري ذبذبة كذبذبة الأوتار من كلمة إلى عبارة، فيتردد صداها في مئات الكلمات والعبارات"(17).
بقلم الدكتور: د. عمر عبد الهادي عتيق
---------------------------
(1) انظر: الزمخشري، جار الله: تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل. دار المعرفة، بيروت، ط1، 2002، ص1182-1185.
(2) لسان العرب: مادة سجر.
(3) المصدر نفسه : مادة سجر.
(4) الأنصاري، أبو يحيى زكريا: فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن. تحقيق: محمد علي الصابوني. عالم الكتب، بيروت، ط1، 1985، ص450.
(5) لسان العرب: مادة سجر.
(6) الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، ط3، 1997، ج5، ص553.
(7) الألوسي، أبو الفضل، شهاب الدين السيد محمود: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. قرأه وصححه: محمد حسين العرب. دار الفكر، بيروت، 1997، م16، ج30، ص91.
( 8 ) لسان العرب: مادة سجر.
(9) الأصفهاني، الراغب: المفردات في غريب القرآن. ص230.
(10) الشوكاني، محمد بن علي: فتح القدير. ج5، ص554.
(11) مصطفى ناصف: نظرية المعنى في النقد العربي. دار الأندلس، ط2، 1981، ص161.
(12) الشوكاني، محمد بن علي: فتح القدير. ج5، ص554.
(13) لسان العرب: مادة سجر.
(14) صلاح فضل: علم الأسلوب – مبادئه وإجراءاته. مؤسسة مختار، القاهرة، 1992، ص93.
(15) انظر: الغرناطي، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصي: ملاك التأويل القاطع بذي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل. تحقيق: سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1993، ج2، ص1137-1138.
(16) المصدر نفسه: ج2، ص1137-1138.
(17) شكري عياد: اللغة والإبداع- مبادىء علم الأسلوب العربي. ص131.
والله أعلم