سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى وأحفوا الشوارب » ، ولهما عنه أيضا: « أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وفي رواية: « أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى » . واللحية: اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، قال ابن حجر : "وفِّروا" بتشديد الفاء، من التوفير: وهو الإبقاء، أي اتركوها وافرة، وإعفاء اللحية: تركها على حالها.
ومخالفة المشركين يفسره حديث أبي هريرة رضي الله عنه: « إن أهل الشرك يعفون شواربهم ويحفون لحاهم فخالفوهم، فأعفوا اللحى وأحفوا الشوارب » رواه البزار بسند حسن، ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا المجوس » ؛ لأنهم كانوا يقصرون لحاهم ويطولون الشوارب، ولابن حبان، عن ابن عمر قال: « ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم، فخالفوهم » فكان يحفي سباله، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من فطرة الإسلام أخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم » ، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمرنا بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية » ، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى » ومعنى جزوا: قصوا، وأرخوا: أي أطيلوا، ورواه بعضهم بلفظ "أرجو" أي: اتركوا، وما روي بلفظ: "قصوا" لا ينافي الإحفاء؛ لأن رواية الإحفاء في الصحيحين ومعينة للمراد، وفي رواية « أوفوا اللحى » أي: اتركوها وافية.
[b][size=25]قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية. وقال القرطبي : لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها.
وحكى أبو محمد بن حزم: الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، واستدل بحديث ابن عمر : « خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وبحديث زيد بن أرقم المرفوع: « من لم يأخذ شاربه فليس منا » صححه الترمذي، وبأدلة أخر، قال في الفروع: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال في الإقناع: ويحرم حلقها، وروى الطبراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق » ، قال الزمخشري : معناه: صيره مثلة، بأن نتفه أو حلقه من الخدود أو غيره بسواد، وقال في النهاية: مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغييره بسواد.
[b][size=25]وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعفوا اللحى وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى » ، وللبزار، عن ابن عباس مرفوعا: « لا تشبهوا بالأعاجم أعفوا اللحى » ، وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تشبه بقوم فهو منهم » ، وله عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، قال: ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية، وقال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه، فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا[b][size=25]
ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد فالشارع يحرمه. ا هـ.
وروي عن ابن عمر: "من تشبه بهم حتى يموت حشر معهم" ، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف » ، زاد الطبراني : « ولا تقصوا النواصي، وأحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وفي شروط عمر على أهل الذمة أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا من المسلمين، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم « نهى عن القزع » : وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه، وعن ابن عمر - في الرأس -: « احلقه كله أو دعه » رواه أبو داود، وحلق القفا لا يجوز لمن لم يحلق رأسه كله ولم يحتج إليه؛ لأنه من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وروى ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه: حلق القفا من غير حجامة مجوسية .
[b][size=25]وأيضا نهى الله تبارك وتعالى عن اتباع أهوائهم فقال: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (1) ، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } (2) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم.
[b][size=25]وروى ابن أبي شيبة: « أن رجلا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية » ، وأخرج الحارث بن أبي أسامة، عن يحيى بن كثير قال: « أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي » ، وروى ابن جرير، عن زيد بن حبيب قصة رسولي كسرى قال: « ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي » ، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية » ، وللترمذي عن عمر : « كث اللحية، » وفي رواية: « كثيف اللحية، » وفي أخرى: « عظيم اللحية، » وعن أنس : « كانت لحيته قد ملأت من ههنا[b][size=25]
إلى ههنا ، وأمر يده على عارضيه، » ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة؛ لفعل ابن عمر (1) ، وأكثر العلماء يكرهه، وهو أظهر لما تقدم، وقال النووي : والمختار تركها على حالها، وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا، وأخرج الخطيب، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يأخذ أحدكم من طول لحيته » ، وقال في الدر المختار: وأما الأخذ منها وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد ا هـ.
_________
(1) الحجة في روايته لا في رأيه، ولا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله أحق وأولى بالاتباع من قول غيره أو فعله كائنا من كان.