بسم الله الرحمن الرحيم
قصيدة في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على سؤال عن القدر أورده أحد علماء الذميين فقال :
أيا علماء الدين ذمي دينكم ** تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ** ولم يرضه منى فما وجه حيلتى
دعانى وسد الباب عنى فهل إلى ** دخولى سبيل بينوا لى قضيتى
قضى بضلالى ثم قال إرض بالقضا ** فما أنا راض بالذى فيه شقوتى
.فإن كنت بالمقضى يا قوم راضيا ** فربى لا يرضى بشؤم بليتى
فهل لى رضا ماليس يرضاه سيدى ** فقد حرت دلونى على كشف حيرتى
إذا شاء ربى الكفر منى مشيئة ** فهل أنا عاص في إتباع المشيئة
وهل لى إختيار أن أخالف حكمه ** فبالله فاشفوا بالبراهين غلتى
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا الحمد لله رب العالمين
سؤالك ياهذا سؤال معاند ** مخاصم رب العرش بارى البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ** قديما به إبليس أصل البلية
ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ** على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ** إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا ** به الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ** هو الخوض في فعل الاله بعلة
فإنهمو لم يفهموا حكمة له ** فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله ** مشيئة رب الخلق بارى الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما ** لها من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه ثم قدرة ** لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته ** بها حكمة فيه وأنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ** من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله وحده ** له الخلق والأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة ** له الملك من غير إنتقاص بشركة
فما شاء مولانا إلا ** له فإنه يكون ومالا لا يكون بحيلة
وقدرته لانقص فيها وحكمه ** يعم فلا تخصيص في ذي القضية
أريد بذا أن الحوادث كلها ** بقدرته كانت ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ماقد أراده ** له الحمد حمدا يعتلى كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت ** ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ** من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة ** وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لا لهنا ** ونثبت ما فى ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى ** نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ** وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره ** وذا عسر في نظم هذى القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق ** لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى وأحكام دينه ** وأفعاله في كل هذى الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ** وإلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا وخط كتابه ** بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك لم قد شاء مثل سؤال من ** يقول فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ** وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفى الكون تخصيص كثير يدل من ** له نوع عقل أنه بإرادة
إصداره عن واحد بعد واحد ** أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب ** بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى ** وإصدارها عن حكم محض المشيئة وقولك لم شاء الإله هو الذي ** أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق ** لنفع ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أو قعت ** أوائلهم في شبهة الثنوية
وأن ملاحيد الفلاسفة الأولى ** يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه ** فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وأن مبادى الشر في كل أمة ** ذوى ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ** وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته ** من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ** عليك وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة ** وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة ** كحالك ياهذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر ** وكل غوى خارج عن محجة
فيلزمك الاعراض عن كل ظالم ** على الناس في نفس ومال وحرمة
و لا تغضبن يوما على سافك دما **ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ** ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ** ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ** ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ** ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد ** ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ** على ربهم من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ** بروم فساد النوع ثم الرياسة
وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى ** فأغرق في أليم إنتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه ** وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد ونمروذ وقوم لصالح ** وقوم لنوح ثم أصحاب أيكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى ** من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا ** ونالوا من المعاصى بليغ العقوبة
وإلا فكل الخلق في كل لفظة ولحظة ** عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطى قديمة ** وكل حراك بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه ** كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ** فعال ردى طردا لهذى المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه ** عن الناس طرا عند كل قبيحة
وترك عقوبات الذين قد إعتدوا ** وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس ومال بمثله ** ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم ** قبول لقول النذل ما وجه حيلتى
ويكفيك نقضا ما بجسم بن آدم صبى ** ومجنون وكل بهيمة
من الألم المقضى في غير حيلة ** وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة فما ** يظن بخلق الفعل ثم العقوبة
وكيف ومن هذا عذاب مولد ** عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة
كآكل سم أوجب الموت أكله ** وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك ياهذا كسم أكلته ** وتعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى ** يعاقب إما بالقضا أو بشرعة
ولاعذر للجاني بتقدير خالق ** كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب ** لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه ** عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب ودعوة ** تجاب من الجاني ورب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر ** علي كقول الذئب هذى طبيعتى
وتقديره للفعل يجلب نقمة ** كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه ** كذا طبعه أم هل يقال لعثرة
أم الذم والتعذيب أوكد للذي طبيعته ** فعل الشرور الشنيعة
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ** ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا ** مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق واسمعن ** ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه ** ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لاتتبعنه ** وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه ** وزن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى ** تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا ** ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذى ** به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ** حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من ** غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذى دلالات العباد لحائر ** وأما هداه فهو فعل الربوبة
وفقد الهدى عند الورى لايفيد من ** غدا عنه بل يجزى بلا وجه حجة
وحجة محتج بتقدير ربه ** تزيد عذابا كإحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما ** أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة ** وما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التى كرهت لنا ** فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولى العلم لأرضا ** بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضى بقضائه ** ولا نرتضي المقضى أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة ** إليه وما فينا فنلقى بسخطة
كما أنها للرب خلق وأنها ** لمخلوقة ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ** ونسخط من وجه إكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه ** لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله ** بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا ** بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا إقتضت ما إقتضت من ** الفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي ** يقدره نحو العذاب بعزة
و يهدي أولى التنعيم نحو نعيمهم ** بأعمال صدق في رجاء وخشية
وأمر إله الخلق بين مابه يسوق ** أولى التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت ** أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ** بأمر ولا نهى بتقدير شقوة
ولامخرج للعبد عما به قضى ** ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة ** ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة ** بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك هل إختار تركا لحكمة ** كقولك هل إختار ترك المشيئة
وإختار أن لا إختار فعل ضلالة ** ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف ** على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك فافهم مابه قد أجبت من ** معان إذا إنحلت بفهم غزيزة
أشارت الى أصل يشير إلى الهدى ** و لله رب الخلق أكمل مدحة
و صلى إله الخلق جل جلاله ** على المصطفى المختار خير البرية .
مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/ص245 – 255 .