الخنساءمن أراد أن يعرف كيف يغير الإسلام القلوب والمشاعر والعواطف من العبث والهزل والقنوط إلى الجد والأمل والرضا بالقضاء والقدر, فلينظر إلى الخنساء كيف صاغها الإسلام صياغة جديدة حتى تحولت بهذا الدين العظيم إلى امرأة شجاعة مجاهدة صبورة, تحرض أولادها على الجهاد ولاتخشى الموت فى سبيل الله !ولما قدم عدى بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحادثه فقال : يارسول الله إن فينا أشعر الناس وأسخى وأفرس الناس. قال : سمهم. قال : أما أشعر الناس فامرؤ القيس بن حجر, وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد يعنى أباه, وأما أفرس الناس فعمرو بن معديكرب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس كما قلت ياعدى , أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو, وأما أسخى الناسفمحمد صلى الله عليه وسلم , وأما أفرس الناس فعلى بن أبى طالب.وبشهادة أعظم الشعراء قالوا : إنها أشعر النساء فى الجاهلية والإسلام, وقد قيل لجرير : من أشعر الناس ؟ قال : أنا لولا الخنساء.وحينما قتل أخوها صخر فى الجاهلية ملأت الدنيا عليه شعراً حتى أشتهر ذلك عنها, وحزنت عليه حزناً عميقاً كاد يقتلها.وكان صخر أحبهما إليها لأنه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة ، فقد غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولاً ثم مات ، فلما قتل أخواها أكثرت من الشعر ، فمن قولها في صخر :أعينـيّ جُودَا ولا تَجمدا........ألا تبكيان لصخرَ الندَىألا تبكيان الجريّ الجميل.......ألا تبكيان الفتَـى السيدَاطويل النجاد عظيمُ الرماد.........وسادَ عشيرتَـه أمـردَاوقد كانت حينئذ فى جاهليتها بلا إيمان ولا معرفة بمعنى الصبر على المصيبة والرضا بالقضاء والقدر, وأما بعد إسلامها فقد تبدلت نظرتها إلى الموت والحياة على السواء, فالموت ليس هو نهاية المطاف ولااَخر فصول حياة ابن اَدم, فما هو إلا مرحلة فى الطريق تعقبها مراحل, فهناك حياة البرزخ ثم البعث بعد الموت, حيث تبدأ الحياة الحقيقية إما فى النعيم المقيم وأما فى العذاب الأليم.وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه للخنساء : ماأقرح ماَقى عينيك ؟ قالت : بكائى على السادات من مضر. قال : ياخنساء إنهم فى النار, قالت : ذاك أطول لعويلى عليهم.وقالت كنت أبكى لصخر على الحياة, فأنا اليوم أبكى له من النار.وقد شهدت الخنساء حرب القادسية بين المسلمين بقيادة سعد بن أبى وقاص وبين الفرس بقيادة رستم وذلك زمن الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان معها بنوها وهم أربعة رجال كالأسود , فقالت لهم من أول الليل : "يابنى : أسلمتم طائعين, وهاجرتم مختارين, ووالله الذى لاإله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة, ماخنت أباكم ولا فضحت خالكم, ولا هجنت حسبكم, ولاغيرت نسبكم, وقد تعلمون ماأعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين, واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية, يقول الله تعالى : " ياأيها الذين اَمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" (اَل عمران 200). فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين, فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت ناراً على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها, تظفروا بالغنم والكرامة فى الخلد والمقامة".هل هناك ماهو أبلغ من هذه الكلمات المشرقة التى توقد جمرة الحماس فى الصدور وتلهب فيها الحمية والرغبة فى الإقدام والبحث عن الشهادة؟!إنها لم تبخل بواحد من أبنائها ولم تدخر منهم واحداً تعتمد عليه وقد تقدمت بها السن وطال عليها الزمن, ولكنها دفعت بهؤلاء الأربعة جميعاً وهى تحرضهم على الصدق فى مواطن اللقاء, رجاء أن ينالوا شرف الشهادة لا أن يعودوا إليها سالمين بالأموال والغنيمة, فهل هذه حقاً هى الخنساء التى كانت جزوعة من موت الأحبة فى الجاهلية؟ وهل إلى هذه الدرجة تسمو مشاعر البشر حتى تضحى الأم بأبنائها جميعا فداء لدينها وعقيدتها؟ نعم, إنها عظمة الإسلام وإنها تربية نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم.وحينما أضاء الصباح انطلق الأبناء وباكروا مراكزهم وخرجوا قابلين لنصحها عازمين على قولها, تلتهب قلوبهم حماسة ورغبة وتطلعا إلى الشهادة. وقد قبل الله رجاءها واختار أبناءها الأربعة شهداء فى دار الكرامة. وماذا يتوقع الناس حينما يأتيها خير أبناءها الأربعة وهى التى كادت تموت من قبل حزناً على موت أخيها وليس على موت أبناءها كما هو الحال الاَن؟! ترى ماذا كان جواب الخنساء بعد وصول خبر نعى أبناءها؟لقد قالت : (الحمد لله الذي شرّفني بقتْلِهم وأرجو من رَبّي أن يجمعني بهم في مُسْتَقرَّ رحمتِهِ ).هكذا فلتكن تربية الأبناء بناء, وهكذا فلتحرض النساء أبناءهن على حياة الجد والعمل والصلاح والتقوى, فلا مجال للميوعة و الترف وإنما تنشئة على حب الفضائل والرغبة فى تحصيل المكارم وحميد الصفات الطيبة, وهذا هو خير ميراث يتوارثه الأبناء من الاَباء. |