عباد الله، إن الله وصف عباده المؤمنين بقوله: ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 3].
أيها المسلمون، إن من الإيمان بالغيب أن تؤمن بما وعد الله عباده المؤمنين، حيث وعدهم بجنات النعيم. تؤمن بهذه الجنة التي خلقها الله، وهيَّأها لتكون نُزلا لعباده المؤمنين، تؤمن بها، وبما أعد الله فيها من النعيم المقيم، وأن ذلك حق لا ريب فيه، وعدٌ صادق وخبر حق، يصدق به المسلم ويؤمن به، بل الإيمان به داخل في الإيمان باليوم الآخر الذي هو أصل من أصول الإيمان.
في حديث عبادة بن الصامت يقول : ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) .
فالمؤمن يؤمن بالجنة ونعيمها، ويعلم أنها حق لا يشك في ذلك، ذلكم أن الله جل وعلا أخبر بها في كتابه، وأخبر بها نبيه . أمر الله العباد بالمسارعة إليها: وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الحديد : 21].
دعا الله إليها: وَٱللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25]، أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة: 221].
وعدها عبادَه المؤمنين، وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَـٰكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [التوبة: 72]، جعل الله الأعمال الصالحة سببًا لدخولها برحمة أرحم الراحمين: تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72].
إن المؤمن في هذه الدنيا يجدُّ ويعمل ويرجو رحمة ربه، ويطمع في تلك الجنة، ويرجوها من مالكها، يرجوها ممن هي بيده، ويؤمل تلك الآمال في رب العالمين، يعمل الأعمال الصالحة، يخلصها لله، يستقيم على طاعة الله، يأخذ بكل سبب أخبر به الله ورسوله أنه سبب موصل إلى جنات النعيم، فيعمل به رجاء أن يكون من أهلها، رجاء أن يكون من سكانها، رجاء أن يكون ممن اختير لها وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68].
أيها المسلم:
إنها دار النعيم، إنها دار النعيم التي لا زوال لنعيمها، ولا انقضاء لنعيمها، إنها الدار العظيمة، إنه المقام الأمين، إنها النعمة الدائمة، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم تلك الدار، وأن يجعلنا من سكانها برحمة أرحم الراحمين، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم:
فاسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، اسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران: 185].
اسأل الله الجنة فهي النعمة العظمى، وهي الخير العظيم، فاسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، يقول : ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن)) قال رجل: يا رسول الله، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، لكني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار قال: ((حولها ندندن)) .
إن حب الجنة والشوق إليها جعل عباد الله الصالحين يتسابقون ويتنافسون في صالح العمل، رجاء تلك الجنة التي لا انقضاء لنعيمها، ولا زوال لخيرها.
سارعوا ـ أيها الإخوة ـ إلى تلك الدار العظيمة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أبوابها ثمانية، من أنفق زوجين دعي: يا عبد الله، هذا خير، من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، من كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، من كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
ما بين المصراعين من مصاريع أبواب الجنة كما بين مكة وهجر، فيها غرف يُرى ظاهرها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فيها خيمة مجوّفة من لؤلؤة واحدة، طولها ستون ميلاً، فيها شجرة يسير الجواد المضمَّر مائة عام لا يقطع ظلها.
قال ابن عباس في قوله: وَظِلّ مَّمْدُودٍ [الواقعة: 30] قال: (شجرة على ساحل الجنة يخرج إليها أهل الغرف من أهل الجنة يتحدثون فيها، يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها).
أوراقها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بناؤها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، بلاطها المسك، حصباؤها الياقوت واللؤلؤ، ترابها الزعفران، جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان، أسماءٌ في الدنيا والحقائق مختلفة. قد ذُللت قطوفها، ودنت من متناوليها، يتناولها بسهولة وهو قائم، ويتناولها بسهولة وهو قاعد، ويتناولها بسهولة وهو مضطجع، أعطي كل واحد قوة مائة في الأكل والشرب؛ ليأكلوا ما طاب لهم، ويشربوا ما لذَ لهم، فيها أنهار من ماء غير آسن لا يتغير بطول المكث، وأنهار من لبن، هذا اللبن لا يتغير بحموضة ولا طول زمن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، لا يصدع الرأس ولا يذهب العقل، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، كلما تناولوا من ثمارها شيئًا خلفه غيره، كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [البقرة:25].
يطوف عليهم لخدمتهم ولدان مخلدون، تحسبهم في جمالهم وامتثالهم لؤلؤًا منثورًا، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 45 ـ 47]، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِـئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً [الإنسان: 15، 16].
هم فيها في مقام آمنين قال جل وعلا: إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان: 51]، أمنوا من الموت، وأمنوا من الهرم، وأمنوا من المرض، وأمنوا من انقطاع النعمة، فالنعيم دائم، والخير مستمر، قال جل وعلا: وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108].
فيها أزواج مطهرة من كل دنس، من بول وحيض ونفاس وقذر، لا يبولون ولا يمتخطون ولا يبصقون، إنما أكلهم وشربهم رشحة مسك، يخرج من جنوبهم رشحة مسك، كل ذلك من نعيم الله عليهم، قد أذهب الله عنهم الحزن، فهم يقولون: ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34].
نزع الله الغل من صدورهم، فهم إخوان على سرر متقابلين، وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 47، 48].
فيا أخي المسلم:
هذا فضل الله ورحمته، فاطمع فيما عند الله من الثواب، اطمع فيما عند الله من الثواب، فالأمر يسير لمن يسره الله عليه، حافظ على فرائض دينك، واستقم على طاعة ربك، يناديهم منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا، يناديهم مناد: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، وأعظم ذلك أن يحل الله عليهم رضوانه، فيحل عليهم رضوانه فيقول: أحللت عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا، وأعظم نعيمهم وأجلّه نظرهم إلى وجه ربهم في دار كرامته، فيناديهم منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا لن يخلفكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ألم يُسكنا الجنة؟! ألم ينجنا من النار؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه ربهم، فما أعطي أهل الجنة نعيمًا أعظم من ذلك النعيم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، إنها نعمة دائمة، وخير عظيم.
فيا إخواني، سابقوا على هذا الفوز العظيم، واسألوا الله أن يوفقكم لها، فالأمر بيد الله، برحمة أرحم الراحمين، إنها دارٌ شمر لها الصالحون، واستبق إليها الموفقون، فجدّوا واجتهدوا عسى أن يجعلكم ربكم من سكانها، وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا [الأعراف: 44]، إذا استقر بهم القرار في تلك الدار، وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ [الزمر: 74].
فيا إخواني:
إن الأمر حق لا شك فيه، فاجتهدوا، فعسى الله أن يمن علينا وعليكم جميعًا بتوبة نصوح، وعمل صالح برحمة أرحم الراحمين، ننال به تلك المنازل العالية، والدرجات الرفيعة.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والإعانة على كل خير.