وتبسمك في وجه أخيك صدقة" عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس". قيل: يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: "إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل عن حاجته. وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف. فهذا كله صدقة منك على نفسك". رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي مختصراً. وزاد في رواية: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة لك صدقة " [71].
83237 - على كل نفس في كل يوم طلعت عليه الشمس صدقة منه على نفسه ، من أبواب الصدقة : التكبير ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، واستغفر الله ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويعزل الشوك عن طريق الناس ، والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف ، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعك زوجتك أجر ، أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت أجره فمات أكنت تحتسب به ؟ فأنت خلقته ، فأنت هديته فأنت كنت ترزقه ؟ فكذلك فضعه في حلاله ، وجنبه حرامه ، فإن شاء الله أحياه ، وإن شاء أماته ، ولك أجر
الراوي: أبو ذر الغفاري - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 4038
هذا الحديث العجيب لا يملك الإنسان أن يمر به دون أن يقف عنده لحظات يتدبر بعض معانيه.
وإن له لإيحاءات شتى، يدق بعضها ويلطف، حتى يصل إلى أعماق النفس، إلى قرار الوجدان، فيهزها هزاً، ويوقع على أوتار القلب لحناً صافياً مشرقاً جميلاً يأخذ بالألباب.
وسنختار هنا من المعاني الكثيرة التي يوحي بها الحديث معنيين رئيسيين: أولهما تفجير منابع الخير في النفس البشرية، وثانيهما: ربط المجتمع برباط الحب والمودة والإخاء. وقد نلم ببعض المعاني الأخرى في أثناء الحديث.
* * *
الصدقة في مفهومها التقليدي نقود وأشياء محسوسة يساعد بها الغني الفقير، ويمنحها القوي للضعيف. وهي بهذا المعنى ضيقة المفهوم جداً، وأثرها في حياة المجتمع محدود. ولو أنها ظلت قروناً طويلة مظهراً من مظاهر التكافل الاجتماعي، ورباطاً من روابط المجتمع، وأداة لتطهير الأغنياء من الشح، وإعانة الفقراء على الحياة..
وبصرف النظر عن هدف الإسلام الأصيل في أن يكتفي الناس بعملهم الخاص فلا يحتاجون للصدقات - ذلك الهدف الذي تحقق في عهد عمر بن عبد العزيز إذ يقول يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.. "
بصرف النظر عن هذا الهدف النهائي، فقد كانت الصدقات وسيلة احتياطية في المجتمع، طالما أن الفقر موجود، وإلى أن تتمكن الدولة - كما تمكنت في عهد عمر بن عبد العزيز - من إغناء الناس عن غير هذا الطريق.
ولكن الحديث النبوي يخرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق. من معناها الحسي، إلى معناها النفسي. وهنا تنفتح على عالم رحيب ليست له حدود.
كل خير صدقة.. وعلى كل امرئ صدقة..
هكذا في شمول واسع لا يترك شيئاً ولا يضيق عن شيء!
كل خير صدقة. أو ليس ذلك حقاً؟!
ومن أين تنبع الصدقة التقليدية بمعناها الحسي الضيق الحدود؟
أو ليست تنبع من معين الخير في النفس البشرية؟ بلى! إن هذا هو معينها الوحيد. وإلا فهي رياء كاذب، وهي دنس لا يصدر عن نفس نظيفة. وليس ذلك بطبيعة الحال هو المقصود.
فإذا كانت الصدقة تنبع من معين الخير، فإن حديث الرسول الكريم لا يزيد على أن يرجع مباشرة إلى هذا المعين، يستجيشه ويستدره، ليتفتح ويفيض، ويتدفق في كل اتجاه.
الخير هو معين الصدقة. فليكن كل خير صدقة! كل ما ينبجس من هذا المعين. كل ما يخرج من هذا النبع الطاهر النظيف، هادفاً إلى الخير محققاً له في واقع الحياة.
والصدقة ما هي؟ أليست " إعطاء "؟
بلى، إنها كذلك فليكن إذن كل إعطاء صدقة! حتى تبسمك في وجه أخيك.. صدقة!
إنه ذات المنبع ؛ وهي عملية نفسية واحدة في جميع الأحوال!
إن " الحركة " النفسية التي تحدث في داخل النفس وأنت تهم بإعطاء القرش للرجل المحتاج، أو تعين عاجزاً على اجتياز الطريق، أو تساعد إنساناً على رفع حمل.. إنها هي ذاتها التي تحدث في نفسك وأنت ترفع حجراً من الطريق حتى لا يعثر فيه الناس، وهي ذاتها التي تدفع الابتسامة إلى وجهك حين ترى وجه أخيك..
إنك لو جسّمت مشاعر النفوس، فتخيلتها جسوماً متحركة.. لرأيت صورة واحدة في كل مرة: صورة " النفس " وهي تحرك يدها من الداخل حركة الإعطاء!
خذ! خذ هذا القرش. أو خذ هذه المعونة.. أو خذ هذا الشعور!
منبع واحد. وحركة واحدة في جميع الأحوال.
ودافع واحد..
فالذي يدفعك إلى إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور " إنساني ". وقد يكون من الصعب أن تحدد معنى لهذا اللفظ الدقيق. فهو في بساطته وشموله معجز كالإنسانية!
قد يكون شعورك واضحاً: هذا أخوك في الإنسانية. تحس بينك وبينه هذه الآصرة التي تربط أفراد الجنس الواحد، وتقرب بينهم، وتدعوهم إلى التعاون الوثيق.
وقد يكون شعورك مبهماً. وجدان غامض. خيوط خفية تنبع من قلبك حتى تصل إلى قلبه، فتربط بينهما برباط دقيق. أو هزات كالهزات المغناطيسية أو الكهربائية التي تنتشر في الجو، حتى " يلتقطها " المستقبل من بعيد.
هذا الشعور الإنساني - الواضح أو المبهم - الذي يدفعك إلى إعطاء الصدقة للمحتاج، أليس هو ذاته الذي يحنيك على الحجر فتلتقطه بعيداً عن أقدام المارة؟ أو ليس هو كذلك الذي يشيع البسمة في وجهك حين تلقى الناس؟!
هي عملية واحدة في داخل النفس.. ولكننا لا ندركها دائماً على حقيقتها.
والرسول الكريم يلفتنا في حديثه إليها. يلفتنا إلى هذه الحقيقة النفسية الواحدة التي تكمن وراء كل عمل من أعمال الخير. لنعرف أنه الخير في منبعه وإن تعددت صوره وزواياه.
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم لا يريدنا أن " نعرف " فحسب!
فالمعرفة التي لا تنتهي إلى شيء ليست هدفاً من أهداف الإسلام ولا من أهداف الحياة العملية!
كل شيء ينبغي أن تكون له غاية. وغاية الغايات في الأرض أن يكون الخير هو المسيطر على حياة البشرية. فالخير هو كلمة الله. وكلمة الله هي العليا.
ومن هنا تلتقي الأرض والسماء، والدنيا والآخرة في رصيد الإسلام.