الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد
فلما كان الصبر نصف الإيمان، وخلقاً فاضلاً من أخلاق النفس، وقائداً للنفس إلى الطاعة الله، صارفاً لها عن معصيته، كان ضرورياً أن نبين حقيقته وفضله وأنواعه ومراتبه وحال الناس معه، والأمور التي تقدح فيه وتنافيه، في وقت كثرت فيه المصائب، وعمت الفتن، وزادت الشبهات، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وصارت حاجة الناس إلى الصبر لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام والشراب. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر على طاعته، الصبر عن معصيته، والصبر على قضائه وقدره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حقيقة الصبر وحال الناس معه
الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما.
وهو خُلق فاضل من أخلاق النفس، يُمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولا يَجْمُل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. وقيل:
( هو المقام على البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية ).
ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة بلاء بالصبر
وسئل عنه الجنيد فقال: ( هو تجرع المرارة من غير تعبس ).
وقال ذو النون: ( هو التباعد عن المخلفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة ).
والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. وحُفظ عن بعض السلف قوله: ( اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء ) أي: كُفُوها عما تتطلع إليه من الشهوات.
فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
فحقيقة الصبر إذن أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة إحجامة إمساكاً عما يضره.
أما عن حال الناس مع الصبر
فمنهم من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى من صبره عما يضره؛ فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن دواعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي عنه. ومنهم من تكون قوة صبره عن المخلفات والمعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات. ومنهم من لا صبر له على هذا ولا على ذاك. فكثير من الناس يصبر على مشقة الصيام في الحر وفي مشقة قيام الليل في البرد، ولا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير منهم يصبر عن النظر إلى المحرمات وعن الالتفات إلى الصور العارية، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين، بل هو أضعف شيء عن هذا. وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين، وأقلهم أصبرهم في الموضعين،
ولهذا قيل
(
الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة ).
فضل الصبر
للصبر فضائل كثيرة منها
أن الله يضاعف أجر الصابرين على غيرهم، ويوفيهم أجرهم بغير حساب، فكل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر،
قال تعالى: (
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [الزمر:10].
وأن الصابرين في معية الله، فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه،
قال تعالى: ( إن الله مع الصابرين )[البقرة:153].
قال أبو على الدقاق: ( فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معية).
وأخبر سبحانه عن محبته لأهله فقال: ( والله يحب الصابرين )[آل عمران:146]
وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين. وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً ذلك باليمين
فقال سبحانه ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [النحل:126].
وجمع الله للصابرين أموراً ثلاثة لم يجمعها لغيرهم
وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم،
قال تعالى وبشِّر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [البقرة:155-157].
وقال بعض السلف وقد عُزِي على مصيبة وقعت به: ( مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها ).
ومنها أيضاً أن الله علق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر،
فقال يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا فى واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [آل عمران:200]
فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
واستقصاء جميع فضائل الصبر يطول، وسيأتي مزيد عند الحديث عن الصبر في القرآن والسنة
أنواع الصبر
أنواع الصبر ثلاثة كما قال أهل العلم وهي
صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
ومرجع هذا أن العبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال: بين أمر يجب عليه امتثاله، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وهو لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منها.
وهذه الثلاثة هي التي أوصى بها لقمان ابنه في قوله
يا بنى أقِم الصلاة وأمُر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبِر على ما أصابَك ) [لقمان:17].
بالإضافة إلى أن الصبر في اللغة هو الحبس والمنع، فيكون معناه حبس النفس على طاعة الله، وحبس النفس ومنعها عن معصية الله، وحبس النفس إذا أصيبت بمصيبة عن التسخط وعن الجزع ومظاهره من شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية.
أما الصبر على الطاعات فهو صبر على الشدائد؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات، فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وإيثار الراحة، وتكره الزكاة بسبب الشح والبخل، وتكره الحج والجهاد للأمرين معاً، وتكره الصوم بسبب محبة الفطر وعدم الجوع، وعلى هذا فقِس. فالصبر على الطاعات صبر على الشدائد
والعبد يحتاج إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال
الأولى
: قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على الوفاء بالمأمور به نحوها، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) [هود:11].
الثانيه
: الصبر حال العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه وأركانه، فيلازم الصبر عند دواعي التقصير فيه والتفريط، وعلى استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود
الثالثة
: الصبر بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للرياء والسمعة، والصبر عن النظر إلى العمل بعين العجب، والصبر عن الإتيان بما يبطل عمله ويحيط أثره كما قال تعالى لا تَبطِلوا صدقاتكم بالمَن والأذى ) [البقرة:264]
فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله فالطاعة إذن تحتاج إلى مجاهدة وصبر،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( حُفَّت الجنة بالمكاره ....) (رواه مسلم )
أى بالأمور التى تشق على النفوس وأما الصبر عن المعاصى فأمره ظاهر، ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات، وعن الوقوع فيما حرم الله.
وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف، ومفارقة كل ما يساعد على المعاصى، وقطع العادات، فإن العادة طبيعة خاصة، فإذا انضمت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جند الشيطان على جند الله، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما.
ولهذا فقال النبى صلى الله عليه وسلم ... وحُفَّت النار بالشَّهَوات ) وذلك لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها، فإذا حبس الإنسان نفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيراً له
وأما الصبر على البلاء فقد قال الله تعالى: وَلَنَبلُوَنّكُم بِشَىءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثّمَراتِ وَبَشِرِ الصّابِرينَ ( البقرة:155).
ويكون هذا الصبر بحبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله تعالى، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها
فالصبر من العبد عند وقوع البلاء به هو اعتراف منه لله بما أصاب منه واحتسابه عنده ورجاء ثوابه،
فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، وأبدل لي بها خيراً منها } [رواه أبو داود].
فلما احتضر أبو سلمة قال: ( اللهم اخلفني في أهلي خيراً مني ). فلما قبض قالت أم سلمة: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب مصيبتي ). فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن الله إلى ما آلت إليه. ونالت أم سلمه نكاح أكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم
مراتب الصبر
وهى ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله
الأولى
: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصير، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إلا بِاللّهِ ) (النحل: 127) يعنى: إن لم يُصبرك الله لن تصبر
الثانية
: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأغراض
الثالثة
: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابرا نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصِّدِّيقين
قال الجنيد
المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق فى جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد )
الصبر فى القرآن
ذكر ابن القيم رحمه الله كثيراً من المواضع التى ورد بها الصبر فى القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله ذكر الله سبحانه الصبر فى القرآن الكريم فى نحو ستين موضعاً) ونحن نذكر بعضاً الأنواع التى سِيق فيها الصبر فى القرآن الكريم ومنها
1- الأمر به كقوله تعالىوَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ) ( النحل:127) وقوله وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ ) ( الطور:48)
2-
النهى عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَتَستَعجِل لَهُم) ( الأحقاف:35). وقوله وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ ) (القلم:48)
3-
الثناء على أهله، كقوله تعالىوَالصّابِرِينَ فِي البأسآء وَالضّرآء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ ) (البقرة:177)
4-
تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالىبَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ ءَالَفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِمِينَ ) ( آل عمران:125)،
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم:{ واعلم أن النصر مع الصبر }
5- الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قالوالملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صَبَرتم فنِعم عُقبَى الدار(24) ) [الرعد:24،23].
6-
الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أَخرِج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذلك لآياتٍ لكل صبَّارٍ شكور) [إبراهيم:5].
7- الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون ) [القصص:80]، وقوله وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍ عظيم) [فصلت:35].
8- تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالىوجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
9- أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال إنَّا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوَّاب) [ص:44] فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد
10- أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قولهواستعينوا بالصبر والصلاة) [البقرة:45]،
وبالتقوى في قولهإنه من يتقِّ ويصبر) [يوسف:90]،
وبالشكر في قولهإن فى ذلك لآيات لكل صبَّارٍ شكور) [لقمان:31]،
وبالرحمة في قوله: [(وتواصَوا بالصَّبر وتواصَوا بالمَرحَمَة)البلد:17]،
وبالصدق في قولهوالصَّادقِين والصَّادِقات والصَّابرين والصَّابِرات)[الأحزاب:35].
وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً
الصبر في السنه
لقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بين فضل الصبر والحث عليه، وما أعد الله للصابرين من الثواب والأجر فى الدنيا والآخرة، ولقد بوَّب العلماء للصبر أبواباً عدة فى كتبهم، وذكروا تحتها من الأحاديث ما لا يحصى، ونحن نذكر هنا بعضها فى الصحيحين
1-
عن أنس رضى الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلمبامرأة تبكى عند قبر فقالاتقى الله واصبرى) فقالت: إليك عنى فإنك لم تصب بمصيبتى - ولم تعرفه - فقيل لها: إنه النبى صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت باب النبى صلى الله عليه وسلم فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال صلى الله عليه وسلم:{ إنما الصبر عند الصدمة الأولى } فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها، فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر
2- وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {.. ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر } [رواه البخاري ومسلم].
3- وعن أنس رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيه ـ فصبر عوضته عنهما الجنة } [رواه البخاري].
4- وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { رحم الله موسى قد أوذى بأكثر من هذا فصبر }
والأحاديث في فضل الصبر والحث عليه أكثر من أن تحصى، وما ذُكر يكفي
من كلا م السلف في الصبر
1 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (
وجدنا خير عيشنا بالصبر ) وقال أيضاً: ( أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً ).
2 - وقال علي رضي الله عنه: (
ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد ). ثم رفع صوته فقال: ( ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ) وقال أيضاً: ( والصبر مطية لا تكبو ).
3 - وقال الحسن: (
الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده ).
4 - وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (
ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعوضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه ).
5 - وقال سليمان بن القاسم رحمه الله: (
كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر ).
6- وقال ميمون بن مهران رحمه الله: (
الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية ) وقال أيضاً: ( ما نال أحد شيئاً من جسم الخير فما دونه إلا بالصبر ).
أمور تقدح في الصبر وتنافيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد عكس ما ذكرته قادحاً في الصبر، منافياً له، ومن هذه الأمور
1 - الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان. وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة
فقال: (
يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ )
ثم أنشد
وإذا عَرَتك بلية فاصبر لها
صبر الكريـم فإنه بك أعـلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
ولا ينافي الصبر الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال
إنما أشكو بثِّى وحزنى إلى الله)[يوسف:86].
ولا ينافي الصبر أيضاً إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للإستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر
2- ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة، ولهذا برىء النبي صلى الله علية وسلم ممن فعل ذلك
ولا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب
وابيضَّت عيناهُ من الحزن فهو كظيم)[يوسف:84]. قال قتادة: ( كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيراً )
3 - ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وقد قيل: (
من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة ). وقيل أيضاً: ( كتمان المصائب رأس الصبر ).
4 - ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى
إنَّ الإنسانَ خُلِق هَلُوعاً (19) إذا مسَّه الشَّرُ جَزوعاً (20) وإذا مسَّه الخيرُ مَنُوعاً (21))[المعارج:19-21].
قال عبيد بن عمير: (
ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيىء والظن السيىء ). وقال بعضهم: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي الله واحتسبيه عند الله، واصبري. فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع
وأخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يجعلنا من الصابرين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فلما كان الصبر نصف الإيمان، وخلقاً فاضلاً من أخلاق النفس، وقائداً للنفس إلى الطاعة الله، صارفاً لها عن معصيته، كان ضرورياً أن نبين حقيقته وفضله وأنواعه ومراتبه وحال الناس معه، والأمور التي تقدح فيه وتنافيه، في وقت كثرت فيه المصائب، وعمت الفتن، وزادت الشبهات، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وصارت حاجة الناس إلى الصبر لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام والشراب. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر على طاعته، الصبر عن معصيته، والصبر على قضائه وقدره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حقيقة الصبر وحال الناس معه
الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما.
وهو خُلق فاضل من أخلاق النفس، يُمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولا يَجْمُل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. وقيل:
( هو المقام على البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية ).
ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة بلاء بالصبر
وسئل عنه الجنيد فقال: ( هو تجرع المرارة من غير تعبس ).
وقال ذو النون: ( هو التباعد عن المخلفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة ).
والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. وحُفظ عن بعض السلف قوله: ( اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء ) أي: كُفُوها عما تتطلع إليه من الشهوات.
فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
فحقيقة الصبر إذن أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة إحجامة إمساكاً عما يضره.
أما عن حال الناس مع الصبر
فمنهم من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى من صبره عما يضره؛ فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن دواعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي عنه. ومنهم من تكون قوة صبره عن المخلفات والمعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات. ومنهم من لا صبر له على هذا ولا على ذاك. فكثير من الناس يصبر على مشقة الصيام في الحر وفي مشقة قيام الليل في البرد، ولا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير منهم يصبر عن النظر إلى المحرمات وعن الالتفات إلى الصور العارية، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين، بل هو أضعف شيء عن هذا. وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين، وأقلهم أصبرهم في الموضعين،
ولهذا قيل
(
الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة ).
فضل الصبر
للصبر فضائل كثيرة منها
أن الله يضاعف أجر الصابرين على غيرهم، ويوفيهم أجرهم بغير حساب، فكل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر،
قال تعالى: (
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [الزمر:10].
وأن الصابرين في معية الله، فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه،
قال تعالى: ( إن الله مع الصابرين )[البقرة:153].
قال أبو على الدقاق: ( فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معية).
وأخبر سبحانه عن محبته لأهله فقال: ( والله يحب الصابرين )[آل عمران:146]
وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين. وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً ذلك باليمين
فقال سبحانه ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [النحل:126].
وجمع الله للصابرين أموراً ثلاثة لم يجمعها لغيرهم
وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم،
قال تعالى وبشِّر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [البقرة:155-157].
وقال بعض السلف وقد عُزِي على مصيبة وقعت به: ( مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها ).
ومنها أيضاً أن الله علق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر،
فقال يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا فى واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [آل عمران:200]
فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
واستقصاء جميع فضائل الصبر يطول، وسيأتي مزيد عند الحديث عن الصبر في القرآن والسنة
أنواع الصبر
أنواع الصبر ثلاثة كما قال أهل العلم وهي
صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
ومرجع هذا أن العبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال: بين أمر يجب عليه امتثاله، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وهو لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منها.
وهذه الثلاثة هي التي أوصى بها لقمان ابنه في قوله
يا بنى أقِم الصلاة وأمُر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبِر على ما أصابَك ) [لقمان:17].
بالإضافة إلى أن الصبر في اللغة هو الحبس والمنع، فيكون معناه حبس النفس على طاعة الله، وحبس النفس ومنعها عن معصية الله، وحبس النفس إذا أصيبت بمصيبة عن التسخط وعن الجزع ومظاهره من شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية.
أما الصبر على الطاعات فهو صبر على الشدائد؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات، فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وإيثار الراحة، وتكره الزكاة بسبب الشح والبخل، وتكره الحج والجهاد للأمرين معاً، وتكره الصوم بسبب محبة الفطر وعدم الجوع، وعلى هذا فقِس. فالصبر على الطاعات صبر على الشدائد
والعبد يحتاج إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال
الأولى
: قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على الوفاء بالمأمور به نحوها، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) [هود:11].
الثانيه
: الصبر حال العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه وأركانه، فيلازم الصبر عند دواعي التقصير فيه والتفريط، وعلى استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود
الثالثة
: الصبر بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للرياء والسمعة، والصبر عن النظر إلى العمل بعين العجب، والصبر عن الإتيان بما يبطل عمله ويحيط أثره كما قال تعالى لا تَبطِلوا صدقاتكم بالمَن والأذى ) [البقرة:264]
فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله فالطاعة إذن تحتاج إلى مجاهدة وصبر،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( حُفَّت الجنة بالمكاره ....) (رواه مسلم )
أى بالأمور التى تشق على النفوس وأما الصبر عن المعاصى فأمره ظاهر، ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات، وعن الوقوع فيما حرم الله.
وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف، ومفارقة كل ما يساعد على المعاصى، وقطع العادات، فإن العادة طبيعة خاصة، فإذا انضمت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جند الشيطان على جند الله، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما.
ولهذا فقال النبى صلى الله عليه وسلم ... وحُفَّت النار بالشَّهَوات ) وذلك لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها، فإذا حبس الإنسان نفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيراً له
وأما الصبر على البلاء فقد قال الله تعالى: وَلَنَبلُوَنّكُم بِشَىءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثّمَراتِ وَبَشِرِ الصّابِرينَ ( البقرة:155).
ويكون هذا الصبر بحبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله تعالى، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها
فالصبر من العبد عند وقوع البلاء به هو اعتراف منه لله بما أصاب منه واحتسابه عنده ورجاء ثوابه،
فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، وأبدل لي بها خيراً منها } [رواه أبو داود].
فلما احتضر أبو سلمة قال: ( اللهم اخلفني في أهلي خيراً مني ). فلما قبض قالت أم سلمة: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب مصيبتي ). فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن الله إلى ما آلت إليه. ونالت أم سلمه نكاح أكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم
مراتب الصبر
وهى ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله
الأولى
: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصير، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إلا بِاللّهِ ) (النحل: 127) يعنى: إن لم يُصبرك الله لن تصبر
الثانية
: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأغراض
الثالثة
: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابرا نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصِّدِّيقين
قال الجنيد
المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق فى جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد )
الصبر فى القرآن
ذكر ابن القيم رحمه الله كثيراً من المواضع التى ورد بها الصبر فى القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله ذكر الله سبحانه الصبر فى القرآن الكريم فى نحو ستين موضعاً) ونحن نذكر بعضاً الأنواع التى سِيق فيها الصبر فى القرآن الكريم ومنها
1- الأمر به كقوله تعالىوَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ) ( النحل:127) وقوله وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ ) ( الطور:48)
2-
النهى عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَتَستَعجِل لَهُم) ( الأحقاف:35). وقوله وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ ) (القلم:48)
3-
الثناء على أهله، كقوله تعالىوَالصّابِرِينَ فِي البأسآء وَالضّرآء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ ) (البقرة:177)
4-
تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالىبَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ ءَالَفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِمِينَ ) ( آل عمران:125)،
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم:{ واعلم أن النصر مع الصبر }
5- الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قالوالملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صَبَرتم فنِعم عُقبَى الدار(24) ) [الرعد:24،23].
6-
الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أَخرِج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذلك لآياتٍ لكل صبَّارٍ شكور) [إبراهيم:5].
7- الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون ) [القصص:80]، وقوله وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍ عظيم) [فصلت:35].
8- تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالىوجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
9- أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال إنَّا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوَّاب) [ص:44] فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد
10- أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قولهواستعينوا بالصبر والصلاة) [البقرة:45]،
وبالتقوى في قولهإنه من يتقِّ ويصبر) [يوسف:90]،
وبالشكر في قولهإن فى ذلك لآيات لكل صبَّارٍ شكور) [لقمان:31]،
وبالرحمة في قوله: [(وتواصَوا بالصَّبر وتواصَوا بالمَرحَمَة)البلد:17]،
وبالصدق في قولهوالصَّادقِين والصَّادِقات والصَّابرين والصَّابِرات)[الأحزاب:35].
وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً
الصبر في السنه
لقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بين فضل الصبر والحث عليه، وما أعد الله للصابرين من الثواب والأجر فى الدنيا والآخرة، ولقد بوَّب العلماء للصبر أبواباً عدة فى كتبهم، وذكروا تحتها من الأحاديث ما لا يحصى، ونحن نذكر هنا بعضها فى الصحيحين
1-
عن أنس رضى الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلمبامرأة تبكى عند قبر فقالاتقى الله واصبرى) فقالت: إليك عنى فإنك لم تصب بمصيبتى - ولم تعرفه - فقيل لها: إنه النبى صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت باب النبى صلى الله عليه وسلم فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال صلى الله عليه وسلم:{ إنما الصبر عند الصدمة الأولى } فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها، فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر
2- وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {.. ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر } [رواه البخاري ومسلم].
3- وعن أنس رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيه ـ فصبر عوضته عنهما الجنة } [رواه البخاري].
4- وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { رحم الله موسى قد أوذى بأكثر من هذا فصبر }
والأحاديث في فضل الصبر والحث عليه أكثر من أن تحصى، وما ذُكر يكفي
من كلا م السلف في الصبر
1 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (
وجدنا خير عيشنا بالصبر ) وقال أيضاً: ( أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً ).
2 - وقال علي رضي الله عنه: (
ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد ). ثم رفع صوته فقال: ( ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ) وقال أيضاً: ( والصبر مطية لا تكبو ).
3 - وقال الحسن: (
الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده ).
4 - وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (
ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعوضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه ).
5 - وقال سليمان بن القاسم رحمه الله: (
كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر ).
6- وقال ميمون بن مهران رحمه الله: (
الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية ) وقال أيضاً: ( ما نال أحد شيئاً من جسم الخير فما دونه إلا بالصبر ).
أمور تقدح في الصبر وتنافيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد عكس ما ذكرته قادحاً في الصبر، منافياً له، ومن هذه الأمور
1 - الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان. وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة
فقال: (
يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ )
ثم أنشد
وإذا عَرَتك بلية فاصبر لها
صبر الكريـم فإنه بك أعـلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
ولا ينافي الصبر الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال
إنما أشكو بثِّى وحزنى إلى الله)[يوسف:86].
ولا ينافي الصبر أيضاً إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للإستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر
2- ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة، ولهذا برىء النبي صلى الله علية وسلم ممن فعل ذلك
ولا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب
وابيضَّت عيناهُ من الحزن فهو كظيم)[يوسف:84]. قال قتادة: ( كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيراً )
3 - ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وقد قيل: (
من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة ). وقيل أيضاً: ( كتمان المصائب رأس الصبر ).
4 - ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى
إنَّ الإنسانَ خُلِق هَلُوعاً (19) إذا مسَّه الشَّرُ جَزوعاً (20) وإذا مسَّه الخيرُ مَنُوعاً (21))[المعارج:19-21].
قال عبيد بن عمير: (
ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيىء والظن السيىء ). وقال بعضهم: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي الله واحتسبيه عند الله، واصبري. فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع
وأخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يجعلنا من الصابرين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم