ضاع لرجل بعير، فنادى في الطرقات: مَن يرده إليَّ.. فله بعيران!.
فقيل له: واحد.. باثنين؟!.
قال: أنتم لا تعرفون مُتْعَةَ الوجدان!
ونتساءل مع ذلك الرجل: ماذا لو كان الضائع هو وجود الإنسان نفسه؟، ماذا يكون عمق المتعة لو ضاعت نفسك في متاهات الحياة، ثم عاد بها إليك إنسان؟.
لقد كان الإنسان ميتًا فأحياه الله بالإسلام، وكان تائهًا فأرشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى طريق الإيمان.
لقد وُلد الإنسان بميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعثته ميلادًا جديدًا، فانتقل من حياة الظلم إلى النور، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الضياع إلى الهداية، ومن التردى في غياهب الحياة إلى الارتقاء في سلم الهداية نحو الله جل جلاله.
أمثلة من التاريخ
يقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه- وهو يخاطب النجاشي، موضحًا له كيف أنقذهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- من ظلمات الشك والجهل والظلم إلى نور اليقين والعلم والعدل، يقول:
يا أيها الملك.. كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء..
ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث..
محمدٌ خيرُ من سارت به قدم وأكرمُ الناس ماضيها وباقيها
أوْفَى الخليقةِ إيمانًا وأكملُها دينًا، وأرجحُها في وزن باريها
من مثلُه في الورى بِرًا ومرحمةً؟! ومن يشابهُه لطفًا وتوجيها؟!
جاءت رسالتُه للناس خاتمةً وجاء بالنعمة المسداةِ يهديها
أحيا الحنيفيةَ الغراءَ متبِعًا نهجَ الخليلِ ولم يخطئْ مراميها
وسار في كنفِ الرحمنِ يكلؤه إلى الحسانِ من الأخلاقِ يبنيها
وحينما دخل ربعي بن عامر؛ ذلك الصحابي البسيط - على رستم- قائد الفرس وهو يمزق ذلك البساط الناعم تحته، ويمزق معه قيمًا زائفة طالما عبدها الناس، والتفوا حولها، مخاطبًا رستم ومن حوله: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فأي ضيق كان فيه كسرى، وأية سعة كان فيها ذلك العربي البسيط؟، ولكن المعادلة سهلة، وحلّها ميسور.. لقد وجد المسلم نفسه، فوُلد بها ميلادًا مباركًا جديدًا.
وما أضيق الدنيا ولو كنت تملك فيها كل ألوان المتع، إذا كنت مع ذلك تخسر نفسك، أو يتحكم فيك سواك..
إن الوجدان الحقيقي والميلاد الحقيقي يكون في العيش تحت ظلال الإسلام وتعاليم الإسلام، وقيم الإسلام، وأحكام الإسلام، وما سوى ذلك لا ينفع عند الله، ولا يقيم الله له ميزانًا: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( آل عمران: 85 ).
وفي حادثة توزيع غنائم حنين مثال آخر، يشهد بما أضافه الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى البشرية من الهداية والغنى والألفة؛ يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه-: "لمّا أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ هذا الحىّ من الأنصار في أنفسهم حتى كثُرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة - رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله إنَّ هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لِما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك، وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحىّ من الأنصار منها شيء!، قال: فأيْن أنت من ذلك يا سعد؟، قال: يا رسول الله ما أنا إلاّ من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فجمعهم فأتاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم، وَجْدَةٌ وجدتموها علىَّ في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاّلا فهداكم الله، وعالةً فاغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم.
قالوا: بلى، والله ورسولُهُ أمَنُّ وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟.
قالوا: بما ذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسول الفضل والمَنّ؟.
قال: أما والله، لو شئتم لقلتم، ولصدقتم، أتيناك مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك...
أَوَجَدْتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تأَلَّفْت بها قومًا ليُسلِموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟، فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا لسلكتُ شِعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال أبو سعيد: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا" (السيرة النبوية لابن هشام، ج5 ص177).
الأسوة الحسنة
لقد أثنى الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم- فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)
وما ذلك إلا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- علّم أمته كيف يكونون مؤثرين في هذه الحياة، بمنهجهم وسلوكهم، لا مجرد أن تكون لهم أجساد تمشي، وأرواح تعيش، فكثير من الناس يتخذون أندادهم ونظراءهم مثلا أعلى، يقتدون بهم، ويسيرون على دربهم، والمسلم الحق هو من يتخد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة؛ فيولد به من جديد.. لماذا؟.
لأنه - صلى الله عليه وسلم- كان ملتزمًا بأصول الدعوة ومنهجها، فكانت الحكمة وسيلته، والموعظة الحسنة حواره، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة إقناعه.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - التزم بالدعوة قبل أن يُلزم بها، فكان قرآنًا يمشي على الأرض، أو بين الناس، كما وصفته السيدة عائشة - رضي الله عنها-.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- أرسى لنا قواعد السير بالدعوة، وتبليغها إلى الناس، فاتبع منهج التخطيط والمتابعة، وابتعد عن العفوية والارتجالية.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- كان يتحرك بدعوته بمنهج واعٍ، وقواعد ثابتة، ووسائل متغيرة، فضمن لدعوته الانتشار، وصلاحية التطبيق.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- ما استعمل لفظًا نابيًا في دعوته، ولا كان فظًا غليظ القلب، وإنما كان يواجه الناس برحابة الصدر، وصدق الكلمة، وواسع العفو، وجميل المغفرة: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران: 159)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- عاش بين قومه قبل البعثة وبعدها بأخلاق الإسلام، فلم يجد أعداؤه سبيلا إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد. وصدق الله تعالى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (يونس: 16)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- كان معايشًا لأهله وعشيرته وللناس أجمعين، حمل همومهم، وساعدهم على اجتياز مشكلاتهم والعقبات التي اعترضت طريقهم.
ولقد كان من منهج النبي - صلى الله عليه وسلم- في تربية النفوس، أن يبدأ بالأهم فالمهم، وأهم شيء هو الإيمان، فأية محاولة للإصلاح بدونه عبث وضياع: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).
وكان من منهجه - صلى الله عليه وسلم- الصبر على هذه النفوس وما فيها من التواءات حتى تستقيم، وما فيها من ضلالات حتى تهتدي، وما فيها من مفاسد حتى تنصلح، فالاستقامة والهدى والصلاح لن يتحققوا في لحظة، وإنما يحتاجون إلى الصبر: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) (الكهف: 28).
وكان من منهجه - صلى الله عليه وسلم- إبراز القدوة العملية لأصحابه في كل شيء، فإذا أمرهم بشيء كان هو أول المنفذين، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعد الناس عنه.
اللهُ أرسلكم إلينا رحمةً ما ضلَّ من تَبِعتْ خطاه خُطاكا
كنّا حيارى في الظلامِ فأشْرقتْ شمسُ الهدايةِ يومَ لاحَ سناكا
كنّا وربي غارقين بغيِّنا حتى ربطنا حَبْلَنا بعُراكا
لولاك كنا ساجدين لصخرةٍ أو كوكبٍ.. لا نعرفُ الإشراكا
لولاك لم نعبدْ إلـهًا واحدًا حتى هدانا اللهُ يومَ هداكا
ولن يكون هناك تأثير واضح وأثر ملموس لو كان القائد في وادٍ وجنوده في وادٍ آخر، ولذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- معايشًا لأصحابه، عالمًا بأخبارهم، مطلعًا على كافة شئونهم.
وفي ذات صباح يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زيدًا الملقب بزيد الخير، فيسأله: كيف أصبحت يا زيد؟، فقال: أصبحت يا رسول الله أحب الخير وأهله، إن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه، وحننت إليه، فيضمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى صدره في حفاوة وغبطة، ويقول له: تلك علامة الله فيمن يريد".
وتروي السيدة عائشة - رضي الله عنها- فتقول: "لقد كان يمر علينا الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما يُوقد في أبيات رسول الله نار للطعام، فيسألها عبد الله بن الزبير - ابن أختها- يا خالتي: وماذا كان عيشكم؟، فتقول: الأسودان: التمر والماء.
ثم تراه على كثرة مشاغله، وسعيه لتبليغ دعوة الله - عز وجل- صاحب الوجه البشوش؛ الذي يداعب أصحابه ويلاطفهم، وكان كذلك مع أهل بيته جميعًا؛ فعن عائشة - رضي الله عنها- وقد سُئلت: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟، قالت: كان ألين الناس، وكان رجلا من رجالكم، إلا أنه كان ضحاكًا بسامًا.
وحين أرسل معاذًا بن جبل قاضيًا إلى اليمن قال له: بم تقضي؟، فقال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟، قال: أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله".
الواجبات العشرة
إن كل ذلك وغيره كثير ليفرض علينا حبه - صلى الله عليه وسلم- حبًا عمليًا، لا بكلام اللسان وحسب، وإنما أيضًا بالمواقف العملية:
رسولَ الأنام بحبكَ صِرنا كمثلِ الحمام لحيّكَ طِرنا
رسولَ السلام بدربكَ سِرنا ودربُ الحبيبِ حبيبٌ حبيبُ
ومليارُ روحٍ بحبكَ تسعَدْ ومليارُ قلبٍ يقول: محمدْ
فهم يشهدون.. وقلبيَ يشهدْ بأنك أنت الرسولُ الحبيبُ
ومن هذه المواقف:
1 - إحياء سنته - صلى الله عليه وسلم- في العبادات والمعاملات، والحرص على تعليمها لمن لا يعلم بالحكمة والموعظة الحسنة.
2 - الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم- في حياتنا كلها: الخاصة والعامة، الأسرية والمجتمعية، الفردية والجماعية.
3 - السير على الطريق نفسها التي سار عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، مهما كانت العقبات والمحن، فهذه هي الطريق الصحيحة.
4 - إحياء مشروع: "الأمة الأولى"، بهدف تربية أبنائنا ليكونوا قدوات تفتح البلدان بعلمها وسلوكها كما كان الصحابة - رضوان الله عليهم-.
5 - الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ومناصرته وحمايته من كل أذى يراد به أو نقص ينسب إليه، كما قال تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح: 9).
6 - تشجيع الأبناء على حفظ أذكار وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم- وخاصة ما يتعلق منها بالجوانب الحياتية مع متابعة تطبيق ذلك، والتشجيع عليه بالمسابقات والجوائز وغيرها.
7 - ممارسة الدعوة إلى الله تعالى، وذلك لنستشعر مقدار البذل والتضحية التي قدمها النبي - صلى الله عليه وسلم- من أجل توصيل هذا الدين إلينا جميعًا.
8 - تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى عامة الناس حول سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم-، والدعوة إلى التمسك بما صح عنه بأسلوب بسيط واضح.
9 - مقاطعة البضائع الدانماركية مقاطعة حقيقية وفعالة ومستمرة؛ ليكون درسًا لكل من تسول له نفسه الإساءة لمقدساتنا وشعائرنا.
10 - البعد عن دعوات العنصرية أو الطائفية، أو السباب والشتائم، أو القيام بأية أعمال تخالف القوانين، ويكون من شأنها استفزاز المجتمع الغربي، وقيامه بردود أفعال عدائية تجاه المسلمين الأوروبيين.
فقيل له: واحد.. باثنين؟!.
قال: أنتم لا تعرفون مُتْعَةَ الوجدان!
ونتساءل مع ذلك الرجل: ماذا لو كان الضائع هو وجود الإنسان نفسه؟، ماذا يكون عمق المتعة لو ضاعت نفسك في متاهات الحياة، ثم عاد بها إليك إنسان؟.
لقد كان الإنسان ميتًا فأحياه الله بالإسلام، وكان تائهًا فأرشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى طريق الإيمان.
لقد وُلد الإنسان بميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعثته ميلادًا جديدًا، فانتقل من حياة الظلم إلى النور، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الضياع إلى الهداية، ومن التردى في غياهب الحياة إلى الارتقاء في سلم الهداية نحو الله جل جلاله.
أمثلة من التاريخ
يقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه- وهو يخاطب النجاشي، موضحًا له كيف أنقذهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- من ظلمات الشك والجهل والظلم إلى نور اليقين والعلم والعدل، يقول:
يا أيها الملك.. كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء..
ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث..
محمدٌ خيرُ من سارت به قدم وأكرمُ الناس ماضيها وباقيها
أوْفَى الخليقةِ إيمانًا وأكملُها دينًا، وأرجحُها في وزن باريها
من مثلُه في الورى بِرًا ومرحمةً؟! ومن يشابهُه لطفًا وتوجيها؟!
جاءت رسالتُه للناس خاتمةً وجاء بالنعمة المسداةِ يهديها
أحيا الحنيفيةَ الغراءَ متبِعًا نهجَ الخليلِ ولم يخطئْ مراميها
وسار في كنفِ الرحمنِ يكلؤه إلى الحسانِ من الأخلاقِ يبنيها
وحينما دخل ربعي بن عامر؛ ذلك الصحابي البسيط - على رستم- قائد الفرس وهو يمزق ذلك البساط الناعم تحته، ويمزق معه قيمًا زائفة طالما عبدها الناس، والتفوا حولها، مخاطبًا رستم ومن حوله: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فأي ضيق كان فيه كسرى، وأية سعة كان فيها ذلك العربي البسيط؟، ولكن المعادلة سهلة، وحلّها ميسور.. لقد وجد المسلم نفسه، فوُلد بها ميلادًا مباركًا جديدًا.
وما أضيق الدنيا ولو كنت تملك فيها كل ألوان المتع، إذا كنت مع ذلك تخسر نفسك، أو يتحكم فيك سواك..
إن الوجدان الحقيقي والميلاد الحقيقي يكون في العيش تحت ظلال الإسلام وتعاليم الإسلام، وقيم الإسلام، وأحكام الإسلام، وما سوى ذلك لا ينفع عند الله، ولا يقيم الله له ميزانًا: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( آل عمران: 85 ).
وفي حادثة توزيع غنائم حنين مثال آخر، يشهد بما أضافه الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى البشرية من الهداية والغنى والألفة؛ يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه-: "لمّا أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ هذا الحىّ من الأنصار في أنفسهم حتى كثُرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة - رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله إنَّ هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لِما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك، وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحىّ من الأنصار منها شيء!، قال: فأيْن أنت من ذلك يا سعد؟، قال: يا رسول الله ما أنا إلاّ من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فجمعهم فأتاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم، وَجْدَةٌ وجدتموها علىَّ في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاّلا فهداكم الله، وعالةً فاغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم.
قالوا: بلى، والله ورسولُهُ أمَنُّ وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟.
قالوا: بما ذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسول الفضل والمَنّ؟.
قال: أما والله، لو شئتم لقلتم، ولصدقتم، أتيناك مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك...
أَوَجَدْتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تأَلَّفْت بها قومًا ليُسلِموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟، فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا لسلكتُ شِعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال أبو سعيد: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا" (السيرة النبوية لابن هشام، ج5 ص177).
الأسوة الحسنة
لقد أثنى الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم- فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)
وما ذلك إلا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- علّم أمته كيف يكونون مؤثرين في هذه الحياة، بمنهجهم وسلوكهم، لا مجرد أن تكون لهم أجساد تمشي، وأرواح تعيش، فكثير من الناس يتخذون أندادهم ونظراءهم مثلا أعلى، يقتدون بهم، ويسيرون على دربهم، والمسلم الحق هو من يتخد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة؛ فيولد به من جديد.. لماذا؟.
لأنه - صلى الله عليه وسلم- كان ملتزمًا بأصول الدعوة ومنهجها، فكانت الحكمة وسيلته، والموعظة الحسنة حواره، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة إقناعه.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - التزم بالدعوة قبل أن يُلزم بها، فكان قرآنًا يمشي على الأرض، أو بين الناس، كما وصفته السيدة عائشة - رضي الله عنها-.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- أرسى لنا قواعد السير بالدعوة، وتبليغها إلى الناس، فاتبع منهج التخطيط والمتابعة، وابتعد عن العفوية والارتجالية.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- كان يتحرك بدعوته بمنهج واعٍ، وقواعد ثابتة، ووسائل متغيرة، فضمن لدعوته الانتشار، وصلاحية التطبيق.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- ما استعمل لفظًا نابيًا في دعوته، ولا كان فظًا غليظ القلب، وإنما كان يواجه الناس برحابة الصدر، وصدق الكلمة، وواسع العفو، وجميل المغفرة: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران: 159)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- عاش بين قومه قبل البعثة وبعدها بأخلاق الإسلام، فلم يجد أعداؤه سبيلا إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد. وصدق الله تعالى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (يونس: 16)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم- كان معايشًا لأهله وعشيرته وللناس أجمعين، حمل همومهم، وساعدهم على اجتياز مشكلاتهم والعقبات التي اعترضت طريقهم.
ولقد كان من منهج النبي - صلى الله عليه وسلم- في تربية النفوس، أن يبدأ بالأهم فالمهم، وأهم شيء هو الإيمان، فأية محاولة للإصلاح بدونه عبث وضياع: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).
وكان من منهجه - صلى الله عليه وسلم- الصبر على هذه النفوس وما فيها من التواءات حتى تستقيم، وما فيها من ضلالات حتى تهتدي، وما فيها من مفاسد حتى تنصلح، فالاستقامة والهدى والصلاح لن يتحققوا في لحظة، وإنما يحتاجون إلى الصبر: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) (الكهف: 28).
وكان من منهجه - صلى الله عليه وسلم- إبراز القدوة العملية لأصحابه في كل شيء، فإذا أمرهم بشيء كان هو أول المنفذين، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعد الناس عنه.
اللهُ أرسلكم إلينا رحمةً ما ضلَّ من تَبِعتْ خطاه خُطاكا
كنّا حيارى في الظلامِ فأشْرقتْ شمسُ الهدايةِ يومَ لاحَ سناكا
كنّا وربي غارقين بغيِّنا حتى ربطنا حَبْلَنا بعُراكا
لولاك كنا ساجدين لصخرةٍ أو كوكبٍ.. لا نعرفُ الإشراكا
لولاك لم نعبدْ إلـهًا واحدًا حتى هدانا اللهُ يومَ هداكا
ولن يكون هناك تأثير واضح وأثر ملموس لو كان القائد في وادٍ وجنوده في وادٍ آخر، ولذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- معايشًا لأصحابه، عالمًا بأخبارهم، مطلعًا على كافة شئونهم.
وفي ذات صباح يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زيدًا الملقب بزيد الخير، فيسأله: كيف أصبحت يا زيد؟، فقال: أصبحت يا رسول الله أحب الخير وأهله، إن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه، وحننت إليه، فيضمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى صدره في حفاوة وغبطة، ويقول له: تلك علامة الله فيمن يريد".
وتروي السيدة عائشة - رضي الله عنها- فتقول: "لقد كان يمر علينا الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما يُوقد في أبيات رسول الله نار للطعام، فيسألها عبد الله بن الزبير - ابن أختها- يا خالتي: وماذا كان عيشكم؟، فتقول: الأسودان: التمر والماء.
ثم تراه على كثرة مشاغله، وسعيه لتبليغ دعوة الله - عز وجل- صاحب الوجه البشوش؛ الذي يداعب أصحابه ويلاطفهم، وكان كذلك مع أهل بيته جميعًا؛ فعن عائشة - رضي الله عنها- وقد سُئلت: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟، قالت: كان ألين الناس، وكان رجلا من رجالكم، إلا أنه كان ضحاكًا بسامًا.
وحين أرسل معاذًا بن جبل قاضيًا إلى اليمن قال له: بم تقضي؟، فقال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟، قال: أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله".
الواجبات العشرة
إن كل ذلك وغيره كثير ليفرض علينا حبه - صلى الله عليه وسلم- حبًا عمليًا، لا بكلام اللسان وحسب، وإنما أيضًا بالمواقف العملية:
رسولَ الأنام بحبكَ صِرنا كمثلِ الحمام لحيّكَ طِرنا
رسولَ السلام بدربكَ سِرنا ودربُ الحبيبِ حبيبٌ حبيبُ
ومليارُ روحٍ بحبكَ تسعَدْ ومليارُ قلبٍ يقول: محمدْ
فهم يشهدون.. وقلبيَ يشهدْ بأنك أنت الرسولُ الحبيبُ
ومن هذه المواقف:
1 - إحياء سنته - صلى الله عليه وسلم- في العبادات والمعاملات، والحرص على تعليمها لمن لا يعلم بالحكمة والموعظة الحسنة.
2 - الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم- في حياتنا كلها: الخاصة والعامة، الأسرية والمجتمعية، الفردية والجماعية.
3 - السير على الطريق نفسها التي سار عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، مهما كانت العقبات والمحن، فهذه هي الطريق الصحيحة.
4 - إحياء مشروع: "الأمة الأولى"، بهدف تربية أبنائنا ليكونوا قدوات تفتح البلدان بعلمها وسلوكها كما كان الصحابة - رضوان الله عليهم-.
5 - الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ومناصرته وحمايته من كل أذى يراد به أو نقص ينسب إليه، كما قال تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح: 9).
6 - تشجيع الأبناء على حفظ أذكار وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم- وخاصة ما يتعلق منها بالجوانب الحياتية مع متابعة تطبيق ذلك، والتشجيع عليه بالمسابقات والجوائز وغيرها.
7 - ممارسة الدعوة إلى الله تعالى، وذلك لنستشعر مقدار البذل والتضحية التي قدمها النبي - صلى الله عليه وسلم- من أجل توصيل هذا الدين إلينا جميعًا.
8 - تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى عامة الناس حول سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم-، والدعوة إلى التمسك بما صح عنه بأسلوب بسيط واضح.
9 - مقاطعة البضائع الدانماركية مقاطعة حقيقية وفعالة ومستمرة؛ ليكون درسًا لكل من تسول له نفسه الإساءة لمقدساتنا وشعائرنا.
10 - البعد عن دعوات العنصرية أو الطائفية، أو السباب والشتائم، أو القيام بأية أعمال تخالف القوانين، ويكون من شأنها استفزاز المجتمع الغربي، وقيامه بردود أفعال عدائية تجاه المسلمين الأوروبيين.