سيدي الحبيب الرءوف الرحيم محمد بن عبد الله..
رسول رب العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين..
صلاة الله وسلامه عليك في الأولين..
وصلاة الله وسلامه عليك في الآخرين..
وصلاة الله وسلامه عليك في الملأ الأعلى إلى يوم الدين..
سيدي أبا القاسم..
هذه أول رسالة أخطها إليك وأناجيك بها، فاعذرني لجلال الموقف واختلاط المشاعر وتزاحم الأفكار.
ماذا أقول يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؟!
أأقول لك: إن الأمة التي تركتَها بعد أن أحييتَها من العدم، وأخرجتَها من ظلمات الجهالة إلى نور المعرفة، ومن التخبط في الضلالة إلى الهدى والنور، ومن الفُرْقة والشتات إلى الوحدة والتوحيد.. هذه الأمة قد خالفت تحذيراتك لها وأنت تقول لهم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا ؛يضرب بعضكم رقاب بعض"، ولم تنتبه إلى صوتك الرخيم وهو يتلو عليهم الآيات البيانات التي حفظها الله إلى يوم الدين ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103).
هذه الأمة اجتمع من نصَّبوا أنفسهم قادةً لها على غير رغبة من شعوبها بالأمس القريب بعد أن تفرَّقوا إلى أكثر من 50 دولةً؛ كل قطعة منها تسمي نفسها- ويا للسخرية- أمة!!.
أنعى إليك يا سيدي يا رسول الله- صلوات الله عليك وسلامه- هذه الوحدة التي جمعت المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وبلدانهم؛ فقد دبت النزاعات بين المسلمين بسببٍ وبدون سببٍ، بتدخل من أعدائهم الذين صاروا أولياء للبعض من دون البعض، وبسبب العصبية القبلية أو الاختلاف المذهبي أو الصراع على حطام الدنيا الفانية.
أشكو إليك يا حبيب الله ما وصل إليه حالنا؛ فثروات المسلمين في يد أعدائهم، وأموالهم لا يستثمرونها في بلادهم، بل وضعوها في البنوك الغربية؛ يسيطر عليها من حذَّرتنا منهم وحذَّرنا الله بقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ (المائدة: من الآية 33) بينما ينتشر الفقر ويتكاثر الفقراء في بلادنا بصورةٍ فاقت الخيال والتصور، ويا ليت الأمر وصل إلى الفقر فقط، بل إن المجاعات أصبحت سمةً لبلاد المسلمين حتى إن بلادًا زراعيةً تجري بها الأنهار باتت يشكو أهلها من الجوع.
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه؛ فعدد اللاجئين الفارِّين من ديارهم والهائمين على وجوههم من أبناء ملَّتك فاق عشرات الملايين، وهم أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم، وكان الأمل أن يكونوا مواطنين في بلادٍ تجمعها عقيدة الإسلام، وأن يحتضنهم إخوانهم في العقيدة والدين، وأن ينصروهم على أعدائهم أو يساعدهم على العودة إلى بيوتهم وحل ما نشب من نزاعات بين بني قومهم؛ عملاً بتوجيهاتك النبوية: "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله"، وعملاً بالأمر القرآني الكريم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)﴾ (الحجرات).
وكان من الواجب أن يغيثهم من الجوع والعطش؛ فكما قلت لنا وعلمتنا: "ليس منا من بات شبعانَ وجاره جائع"، ولكن تفرَّقت أمتك يا حبيب الله إلى من يموت من الجوع والعطش؛ لأنه لا يجد ما يسد رمقه، وبين من يموت من الشبع والتخمة بسبب الأثرة والأنانية، والجشع والطمع.
ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ فإن أمتك التي حباها الله بثروات هائلة وأنهار جارية وأراضٍ خصبة وأيدٍ عاملة وعقول نيِّرة أضحت تعيش عالةً على المعونات أو الاستيراد من بلاد الله الأخرى؛ تستورد غذاءها كما تستورد لباسها كما تستورد سلاحها، والجميع في ذلك سواء، الدول التي بها قاعدة صناعية أو ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة أو الدول الريعية التي تعيش على عوائد النفط؛ فالكل في همِّ الاستيراد سواء، والجميع باتوا عالةً على غيرهم؛ إما يمدون أيديهم السفلى لأخذ المعونات، وإما يرهنون قرارهم السياسي والإستراتيجي لمن يتولَّى حمايتهم بالسلاح والقواعد العسكرية وجنود المارينز.
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
أمتك أمة الإسلام المليار وربع مسلم ومسلمة، الذين نزل فيهم أول ما نزل من وحي السماء على قلبك لتكون من المنذرين قول الله تعالى ﴿اقْرَأْ﴾ (العلق: من الآية 1).. أمة ﴿اقْرَأْ﴾ بها أعلى نسبة من الأمية على مستوى أمم العالم، وفي ذيل ركب الأمم المتقدِّمة في العلوم والتكنولوجيا، وليس بها مخترع أو مبدع أضاف في القرون الأخيرة شيئًا يذكر إلى الحضارة الإنسانية بعد أن علَّمتَها وربَّيتَها على العلم والمعرفة، فكانت شمسُ الحضارة منها تسطع على الدنيا بأسرها، وبعد أن علَّمتْ أوروبا كيف يكون العلم وكيف يكون النقد وكيف يكون التقدم، إذا بها تتأخر لتصبح في ذيل الركب، بل تحارب العلم وتحمي الخرافة.
أأقول لك: لقد فشلت جامعاتنا أن تحرز موقعًا متقدِّمًا بين أفضل 500 جامعة في العالم؟! أشكو لك كيف باتت جامعاتنا وكلياتنا لا تقوم بالبحث العلمي، ولا تعلِّم الطلاب شيئًا، ولا تهتم بإرساء قواعد العلم والمعرفة؟! ولا مدارسنا تهتم بتربية النشء وأن معظم معاهدنا العلمية أو التي من المفترض أن تكون علميةً قد أصبحت مرتهنة لضباط الأمن ومسئولي المباحث الذين دمَّروا كل شيء في حياتنا بأوامر من قادتهم السياسيين؟!.
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد علمتنا من البداية أن هناك صنفين إذا صَلُحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء، وها هو حال العلماء لا يخفى على امرئٍ، سواءٌ أكانوا علماء في علوم الدنيا أم كانوا علماء في علوم الدين والشريعة.
ويا للحسرة من سمَّتهم الأمة علماء السلطان؛ فقد تخَّلوا عن واجبهم في الجهر بكلمة الحق في وجه السلطان الغاشم الظالم، بل أصبح من واجبهم تبرير كل ما يقوم به السلاطين، وتقديم كل المبررات لاستبدادهم وفسادهم.
كان المأمول أن يكون هؤلاء، وهم علماءَ الإسلام- كما أخبرتنا- ورثتَك من بعدك؛ فالعلماء ورثة الأنبياء كما علمتنا، ولكن هؤلاء في زماننا هذا ضيَّعوا ما ورثوه من ميراث النبوة؛ فلم يصبح منهم هداةً تقاةً إلا قلة نادرة يفزع إليها الناس ويهتدي بها المسلمون.
أما علماء الدنيا من علوم تعمر بها الأرض، وتقام بها حضارة تهتدي بها البشرية لتكون أمتنا حجة على الناس، فقد باعوا أنفسهم وزراء عند الملوك والأمراء والرؤساء، وتركوا معاملهم خاويةً على عروشها، وسلَّموا كلياتهم وجامعاتهم وطلابهم لقمةً سائغةً لوحوش الأمن يفتكون بآمالهم وطموحاتهم، ويدمرون مستقبل الأمة كلها.
يا سيدي.. لقد توقف علماؤنا- إن صحت تسميتهم بالعلماء- عن فريضة التفكير والتجديد والاجتهاد، فتعطلت شريعة الله، ليس فقط بإهمال الأمراء والذين جعلوها خلف ظهورهم، بل أيضًا بتقاعس علماء الشريعة أنفسهم عن التجديد والاجتهاد؛ حتى يواكبوا العصر ومستجداته، ويقيموا الحجة على المسلمين عامتهم وحكامهم، بل إن الأدهى والأمرَّ أنهم شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بسفاسف الأمور وتوافه الفتاوى؛ مما ضيع هيبتهم في كافة العيون..
ولو أن أهل العلم صانوه لصانهم ولو عظموه في النفوس لعُظِّما
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليك..
لقد علَّمتَنا وربَّيتَ أمتك على قيم العزة والكرامة والعمل والإنتاج، والدقة والأمانة والحب والتسامح والكرم والجود والمساواة والعدل، والحرية والشورى.. فأين نحن الآن من هذه القيم ومن غيرها؟!
لقد تردَّت أحوالنا في معظم بلاد المسلمين حتى باتت تعيش على عكس ما ربَّيتَنا عليه، والأسى والحسرة والحزن والكمد يملأ قلوبنا ونحن نعترف بهذه لحقيقة المرَّة، ولكنه تشخيص الداء لنبدأ العلاج.
والأمل يملأ قلوبنا، فها هي أمتك تصحو وتنتفض لكي تنهض وتعمل على تغيير أحوالها، فإنك علمتنا ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) ولقد بدأت نهضتنا منذ عقود وبدأت صحوتها منذ فزعت على أقدام الكفار يحتلون بلادها، وهي مستمرة في صحوتها ونهضتها، ولكن العقبات ما زالت أمامها كبيرة، وها هي تتخطَّى العقبات، فأعلنت الجهاد ضد الاحتلال وضد الاستبداد وضد الفساد وضد الجهل وضد الخرافة وضد التعصب وضد الفرقة والتشرذم.
وأنت الذي بعثت فينا الأمل بقولك: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد كنتُ أبثُّ إليك هذه النفثات أمام قبرك الشريف مع ملايين الزائرين من المسلمين، ولكني محروم من هذه الزيارة تلك الأيام، وما زلت أتذكَّر تمثُّلي بأبيات أحمد شوقي التي تعبر كل التعبير عن مكنون نفسي:
إذا زرت بعد البيت قبر محمدٍ وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت مع الدمع العيون مهابةً لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة
لمظهر دين الله فوق تنوفة وباني صروح المجد فوق فلاة
فقل لرسول الله يا خير مرسل أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر، سنة فما بالهم في حالك الظلمات؟
وذلك ماضي مجدهم وفخارهم فما ضرهم لو يعلمون لآتي؟
وهذا زمان أرضه وسماؤه مجال لمقدام كبير حياة
مشى فيه قوم في السماء وأنشئوا بوارج في الأبراج ممتنعات
فقل: رب وفِّق للعظائم أمتي وزيِّن لها الأفعال والعزمات
كان هذا منذ حوالي قرن من الزمان عندما دعاه الخديوي عباس حلمي للحج معه فاعتذر وسطر هذه الأبيات التي شدت أم كلثوم ببعضها، ولكنها ما زالت معبِّرة بصدق عن هموم كل مسلم تتقطع نفسه حسراتٍ على أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد نزل في القرآن العظيم قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (النساء: من الآية 64).
وها نحن ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا وأقبلنا على الله تائبين، وأنت الذي وصفك الله ﴿بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوفٌ رَحِيْمٌ﴾ فسامحنا واستغفر لنا الله وسله سبحانه أن يرحمنا ويثبتنا، ويقويَ ظهرنا، ويجبر ضعفنا، ويغيِّرَ أحوالنا؛ فأنت خير شافع لنا، يا سيدي يا رسول الله
بابى انت وامى يا سيدى يارسول الله
رسول رب العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين..
صلاة الله وسلامه عليك في الأولين..
وصلاة الله وسلامه عليك في الآخرين..
وصلاة الله وسلامه عليك في الملأ الأعلى إلى يوم الدين..
سيدي أبا القاسم..
هذه أول رسالة أخطها إليك وأناجيك بها، فاعذرني لجلال الموقف واختلاط المشاعر وتزاحم الأفكار.
ماذا أقول يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؟!
أأقول لك: إن الأمة التي تركتَها بعد أن أحييتَها من العدم، وأخرجتَها من ظلمات الجهالة إلى نور المعرفة، ومن التخبط في الضلالة إلى الهدى والنور، ومن الفُرْقة والشتات إلى الوحدة والتوحيد.. هذه الأمة قد خالفت تحذيراتك لها وأنت تقول لهم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا ؛يضرب بعضكم رقاب بعض"، ولم تنتبه إلى صوتك الرخيم وهو يتلو عليهم الآيات البيانات التي حفظها الله إلى يوم الدين ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103).
هذه الأمة اجتمع من نصَّبوا أنفسهم قادةً لها على غير رغبة من شعوبها بالأمس القريب بعد أن تفرَّقوا إلى أكثر من 50 دولةً؛ كل قطعة منها تسمي نفسها- ويا للسخرية- أمة!!.
أنعى إليك يا سيدي يا رسول الله- صلوات الله عليك وسلامه- هذه الوحدة التي جمعت المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وبلدانهم؛ فقد دبت النزاعات بين المسلمين بسببٍ وبدون سببٍ، بتدخل من أعدائهم الذين صاروا أولياء للبعض من دون البعض، وبسبب العصبية القبلية أو الاختلاف المذهبي أو الصراع على حطام الدنيا الفانية.
أشكو إليك يا حبيب الله ما وصل إليه حالنا؛ فثروات المسلمين في يد أعدائهم، وأموالهم لا يستثمرونها في بلادهم، بل وضعوها في البنوك الغربية؛ يسيطر عليها من حذَّرتنا منهم وحذَّرنا الله بقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ (المائدة: من الآية 33) بينما ينتشر الفقر ويتكاثر الفقراء في بلادنا بصورةٍ فاقت الخيال والتصور، ويا ليت الأمر وصل إلى الفقر فقط، بل إن المجاعات أصبحت سمةً لبلاد المسلمين حتى إن بلادًا زراعيةً تجري بها الأنهار باتت يشكو أهلها من الجوع.
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه؛ فعدد اللاجئين الفارِّين من ديارهم والهائمين على وجوههم من أبناء ملَّتك فاق عشرات الملايين، وهم أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم، وكان الأمل أن يكونوا مواطنين في بلادٍ تجمعها عقيدة الإسلام، وأن يحتضنهم إخوانهم في العقيدة والدين، وأن ينصروهم على أعدائهم أو يساعدهم على العودة إلى بيوتهم وحل ما نشب من نزاعات بين بني قومهم؛ عملاً بتوجيهاتك النبوية: "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله"، وعملاً بالأمر القرآني الكريم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)﴾ (الحجرات).
وكان من الواجب أن يغيثهم من الجوع والعطش؛ فكما قلت لنا وعلمتنا: "ليس منا من بات شبعانَ وجاره جائع"، ولكن تفرَّقت أمتك يا حبيب الله إلى من يموت من الجوع والعطش؛ لأنه لا يجد ما يسد رمقه، وبين من يموت من الشبع والتخمة بسبب الأثرة والأنانية، والجشع والطمع.
ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ فإن أمتك التي حباها الله بثروات هائلة وأنهار جارية وأراضٍ خصبة وأيدٍ عاملة وعقول نيِّرة أضحت تعيش عالةً على المعونات أو الاستيراد من بلاد الله الأخرى؛ تستورد غذاءها كما تستورد لباسها كما تستورد سلاحها، والجميع في ذلك سواء، الدول التي بها قاعدة صناعية أو ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة أو الدول الريعية التي تعيش على عوائد النفط؛ فالكل في همِّ الاستيراد سواء، والجميع باتوا عالةً على غيرهم؛ إما يمدون أيديهم السفلى لأخذ المعونات، وإما يرهنون قرارهم السياسي والإستراتيجي لمن يتولَّى حمايتهم بالسلاح والقواعد العسكرية وجنود المارينز.
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
أمتك أمة الإسلام المليار وربع مسلم ومسلمة، الذين نزل فيهم أول ما نزل من وحي السماء على قلبك لتكون من المنذرين قول الله تعالى ﴿اقْرَأْ﴾ (العلق: من الآية 1).. أمة ﴿اقْرَأْ﴾ بها أعلى نسبة من الأمية على مستوى أمم العالم، وفي ذيل ركب الأمم المتقدِّمة في العلوم والتكنولوجيا، وليس بها مخترع أو مبدع أضاف في القرون الأخيرة شيئًا يذكر إلى الحضارة الإنسانية بعد أن علَّمتَها وربَّيتَها على العلم والمعرفة، فكانت شمسُ الحضارة منها تسطع على الدنيا بأسرها، وبعد أن علَّمتْ أوروبا كيف يكون العلم وكيف يكون النقد وكيف يكون التقدم، إذا بها تتأخر لتصبح في ذيل الركب، بل تحارب العلم وتحمي الخرافة.
أأقول لك: لقد فشلت جامعاتنا أن تحرز موقعًا متقدِّمًا بين أفضل 500 جامعة في العالم؟! أشكو لك كيف باتت جامعاتنا وكلياتنا لا تقوم بالبحث العلمي، ولا تعلِّم الطلاب شيئًا، ولا تهتم بإرساء قواعد العلم والمعرفة؟! ولا مدارسنا تهتم بتربية النشء وأن معظم معاهدنا العلمية أو التي من المفترض أن تكون علميةً قد أصبحت مرتهنة لضباط الأمن ومسئولي المباحث الذين دمَّروا كل شيء في حياتنا بأوامر من قادتهم السياسيين؟!.
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد علمتنا من البداية أن هناك صنفين إذا صَلُحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء، وها هو حال العلماء لا يخفى على امرئٍ، سواءٌ أكانوا علماء في علوم الدنيا أم كانوا علماء في علوم الدين والشريعة.
ويا للحسرة من سمَّتهم الأمة علماء السلطان؛ فقد تخَّلوا عن واجبهم في الجهر بكلمة الحق في وجه السلطان الغاشم الظالم، بل أصبح من واجبهم تبرير كل ما يقوم به السلاطين، وتقديم كل المبررات لاستبدادهم وفسادهم.
كان المأمول أن يكون هؤلاء، وهم علماءَ الإسلام- كما أخبرتنا- ورثتَك من بعدك؛ فالعلماء ورثة الأنبياء كما علمتنا، ولكن هؤلاء في زماننا هذا ضيَّعوا ما ورثوه من ميراث النبوة؛ فلم يصبح منهم هداةً تقاةً إلا قلة نادرة يفزع إليها الناس ويهتدي بها المسلمون.
أما علماء الدنيا من علوم تعمر بها الأرض، وتقام بها حضارة تهتدي بها البشرية لتكون أمتنا حجة على الناس، فقد باعوا أنفسهم وزراء عند الملوك والأمراء والرؤساء، وتركوا معاملهم خاويةً على عروشها، وسلَّموا كلياتهم وجامعاتهم وطلابهم لقمةً سائغةً لوحوش الأمن يفتكون بآمالهم وطموحاتهم، ويدمرون مستقبل الأمة كلها.
يا سيدي.. لقد توقف علماؤنا- إن صحت تسميتهم بالعلماء- عن فريضة التفكير والتجديد والاجتهاد، فتعطلت شريعة الله، ليس فقط بإهمال الأمراء والذين جعلوها خلف ظهورهم، بل أيضًا بتقاعس علماء الشريعة أنفسهم عن التجديد والاجتهاد؛ حتى يواكبوا العصر ومستجداته، ويقيموا الحجة على المسلمين عامتهم وحكامهم، بل إن الأدهى والأمرَّ أنهم شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بسفاسف الأمور وتوافه الفتاوى؛ مما ضيع هيبتهم في كافة العيون..
ولو أن أهل العلم صانوه لصانهم ولو عظموه في النفوس لعُظِّما
سامحنا يا سيدي يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليك..
لقد علَّمتَنا وربَّيتَ أمتك على قيم العزة والكرامة والعمل والإنتاج، والدقة والأمانة والحب والتسامح والكرم والجود والمساواة والعدل، والحرية والشورى.. فأين نحن الآن من هذه القيم ومن غيرها؟!
لقد تردَّت أحوالنا في معظم بلاد المسلمين حتى باتت تعيش على عكس ما ربَّيتَنا عليه، والأسى والحسرة والحزن والكمد يملأ قلوبنا ونحن نعترف بهذه لحقيقة المرَّة، ولكنه تشخيص الداء لنبدأ العلاج.
والأمل يملأ قلوبنا، فها هي أمتك تصحو وتنتفض لكي تنهض وتعمل على تغيير أحوالها، فإنك علمتنا ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) ولقد بدأت نهضتنا منذ عقود وبدأت صحوتها منذ فزعت على أقدام الكفار يحتلون بلادها، وهي مستمرة في صحوتها ونهضتها، ولكن العقبات ما زالت أمامها كبيرة، وها هي تتخطَّى العقبات، فأعلنت الجهاد ضد الاحتلال وضد الاستبداد وضد الفساد وضد الجهل وضد الخرافة وضد التعصب وضد الفرقة والتشرذم.
وأنت الذي بعثت فينا الأمل بقولك: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد كنتُ أبثُّ إليك هذه النفثات أمام قبرك الشريف مع ملايين الزائرين من المسلمين، ولكني محروم من هذه الزيارة تلك الأيام، وما زلت أتذكَّر تمثُّلي بأبيات أحمد شوقي التي تعبر كل التعبير عن مكنون نفسي:
إذا زرت بعد البيت قبر محمدٍ وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت مع الدمع العيون مهابةً لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة
لمظهر دين الله فوق تنوفة وباني صروح المجد فوق فلاة
فقل لرسول الله يا خير مرسل أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر، سنة فما بالهم في حالك الظلمات؟
وذلك ماضي مجدهم وفخارهم فما ضرهم لو يعلمون لآتي؟
وهذا زمان أرضه وسماؤه مجال لمقدام كبير حياة
مشى فيه قوم في السماء وأنشئوا بوارج في الأبراج ممتنعات
فقل: رب وفِّق للعظائم أمتي وزيِّن لها الأفعال والعزمات
كان هذا منذ حوالي قرن من الزمان عندما دعاه الخديوي عباس حلمي للحج معه فاعتذر وسطر هذه الأبيات التي شدت أم كلثوم ببعضها، ولكنها ما زالت معبِّرة بصدق عن هموم كل مسلم تتقطع نفسه حسراتٍ على أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
سامحنا يا رسول الله صلوات الله عليك وسلامه..
لقد نزل في القرآن العظيم قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (النساء: من الآية 64).
وها نحن ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا وأقبلنا على الله تائبين، وأنت الذي وصفك الله ﴿بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوفٌ رَحِيْمٌ﴾ فسامحنا واستغفر لنا الله وسله سبحانه أن يرحمنا ويثبتنا، ويقويَ ظهرنا، ويجبر ضعفنا، ويغيِّرَ أحوالنا؛ فأنت خير شافع لنا، يا سيدي يا رسول الله
بابى انت وامى يا سيدى يارسول الله