و إذا مرضت فهو يشفين
وصايا نبوية طبية نافعة
خلق الله الخلق لعبادته وطاعته ، وخلقهم من أرواح وأجساد ، وأنزل لهم من الأحكام الشرعية والتكاليف التعبدية ما يقيم أبدانهم ويهذب أرواحهم ، وأخرج لهم من طيبات الأرض ما يحفظ أبدانهم وأرواحهم
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }.
1 - السلامة في التقليل من الطعام والشراب :
قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
قال بعض الأطباء : إن هذه الآية اشتملت على نصف الطب .
فإن أكثر الأمراض من التخم ، وإدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول .
قلت: وأحذر طعاماً قبل هضم طعام
فمنــه دومــاً سائــر الأسقـام
وقد أوصى الرحمة المهداه - الرحيم بهم - أمته الاعتدال والاقتصاد في سائر شؤونهم ؛ حتى في عبادتهم ولم يفته أن يوصيهم بالاقتصاد في طعامهم
- الذي فيه سلامة أبدانهم - ، وإبعاد عطبهم وتلفهم وهلاكهم ؛ ذلك أن الإكثار من الطعام وما ينتج عنه من التخم والسمنة سبب رئيس لكثير من العلل القاتلة ؛ كالضغط والسكر ، وتصلب الشرايين ، والنقرس ، والأمراض السوداوية ، وكثرة السدد الكبدية والطحالية ، والعلل الرئوية والصدرية ، وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء مدون في كتبهم ونشراتهم الصحية .
ففي (( المسند )) وغيره ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )) .
قلت : فلم يجز الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته أن يتجاوزوا قدر الثلث - والثلث كثير - ، والأفضل أن يقتصروا على لقيمات ؛ تكون دون الثلث بكثير لتقوى معدتهم على هضم الطعام ، والاستفادة منه ، ولكي تتمكن الأجهزة الأخرى من العمل ؛ كجهاز التنفس - الرئتين - ؛ لأن الإنسان إذا شبع ضغطت معدته على الحجاب الحاجز وهو بدوره يضغط على الرئتين ؛ فيمتنع النفس ويصبح صعباً ؛ مما يسبب له الكرب ، حيث يضعف القلب ويجهد ، وبالتالي لا يصل الأ****جين إلى الدم وإلى عروق الدماغ ، فلربما أدى إلى السكتات القلبية والدماغية ، وما يعقب ذلك من موت أو شلل .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (( زاد المعاد )) (4/18) :
(( الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن ، قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضاً متنوعة منها : بطيء الزوال وسريعه . فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير )) .
ومراتب الغذاء ثلاثة :
أحدهما : مرتبة الحاجة .
والثانية : مرتبة الكفاية .
والثالثة : مرتبة الفضلة .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث لنفسه، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، و****ل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً ، وأما إذا كان في بعض الأحيان فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً ، وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا ، والشبع المفرط يُضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته .
2 - الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إلى الحجر الصحي وطبّقه .
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، وعلى من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه )) (1) .
قلت : فأين الغرب من هذا الحديث النبوي الصحيح ؟! الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصول وقواعد (الحجر الصحي) قبل خمسة عشر قرناً من الزمان ، يوم أن كان الغرب في جهل دامس وتخلف طامس ، ولو أنصفوا لشهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة حق ؛ وأنه طبيب الدنيا بأسرها ، كما كان نبي العالمين بأسرهم .
قال الإمام ابن القيم في (( زاد المعاد )) : الطاعون هو عند أهل الطب : ورم رديء يخرج معه تلهب شديد مؤلم جداً يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود ، أو أخضر ، أو أكمد ، ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً ، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع : في الإبط ، وخلف الأذن، والأرنبة ، وفي اللحوم الرخوة .
وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال : (( غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط )) (2) .
قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن ، وخلف الأذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد سمي طاعوناً ، وسببه : دم رديء مائل إلى العفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سمِّي ، يفسد العضو ويغير ما يلين ، وربما رشح دماً أو صديداً ، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والخفقات والغشي .
وهذا الاسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة ، حتى يصير لذلك قتالاً ، فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي ؛ لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع ، وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن ؛ لقربهما من الأعضاء ؛ التي هي رأس ، وأسلمه الأحمر ، ثم الأصفر ؛ والذي إلى السواد ، فلا يفلت منه أحد .
... وهذه القروح والأورام والجراحات ، هي آثار الطاعون وليست نفسه ، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون .
والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :
أحدهما : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه ، وهو المراد في الحديث الصحيح : (( أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ))(3) ، وورد فيه أنه (( وخز الجن ))(4) .
إن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها ، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها ، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً في أجسام بني آدم عند حدوث الوباءوفساد الهواء ؛ كما يجعل لها تصرفاً عند بعض المواد الرديئة التي
تحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما عند هيجان الدم ، والمرة السوداء ، وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن ما لا تتمكن من غيره ، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر ، والدعاء ، والابتهال ، والتضرع ، والصدقة ، وقراءة القرآن ، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ، ويبطل شرها ، ويدفع تأثيرها ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيراً عظيماً في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة ، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ، ولا يكاد ينخرم ، فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له من أنفع الدواء ، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره ، أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها ، فلا يشعر بها ، ولا يريدها ، ليقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً .
قلت : لقد أدرك العالم كله أهمية (الحجر الصحي) خصوصاً بعد اكتشاف المجهر ؛ الذي يكبر الجراثيم والفيروسات مئات ؛ بل آلاف المرات وهذه الميكروبات تحدث أمراضاً فتاكة صعبة ، كميكروبات الكوليرا والطاعون ، والجدري والبلهارسيا ، ومرض آبولا والملاريا ، وغيرها من أمراض فتاكة .
ولقد رأينا قبل سنين كيف قاطعت كل دول العالم الهند عندما أشيع أن الطاعون قد انتشر فيها ، وكيف حجرت على المسافرين القادمين من الهند الدخول إلى أراضيها ، وقادت حملات ضخمة للتطعيم من هذا المرض ، وكذا تفعل الدول مع كل وباء مُعْدٍ ؛ منعاً لانتقال هذا الوباء إلى بلدانها السليمة ، مع حملة واسعة إعلامية من التوعية الصحية لمواطنيها ، فصلى الله على الرحمة المهداة الذي قال الله فيه :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
قال الإمام ابن القيم في (( زاد المعاد )) (4/42-45) :
(( وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه لكمال التحرز منه ؛ فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضاً للبلاء ، وموافاة له في محل سلطانه ، وإعانة للإنسان على نفسه ، وهذا مخالف للشرع والعقل ؛ بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها ، وهي حمية من الأمكنة والأهوية المؤذية .
وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه قولان :
أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله ، والتوكل عليه ، والصبر على أقضيته والرضى بها .
والثاني : ما قاله أئمة الطب : (( أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة ، ويقلل الغذاء ، ويميل إلى التدبير المخفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام ؛ فإنهما مما يجب أن يحذرا ؛ لأن البدن لا يخلو غالباً من فضل رديء كامن فيه ؛ فتثيره الرياضة والحمام ، ويخالطانه بالكيموس(5) الجيد ، وذلك يجلب علة عظيمة ، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة(6) ، وتسكين هيجان الأخلاط ، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة ، وهي مضرة جداً ، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين ، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما )) .
قلت : مع ما فيه من منع نشر العدوى إلى شعوب وبلدان أخرى والمطلوب شرعاً وعقلاً منع الشر ومحاصرته وتقليله ما استطاع العبد إلى ذلك سبيلاً .
وقد ذكر العلماء بعض الحكم في المنع من الدخول إلى الأرض التي وقع بها الطاعون ، منها :
1 - تجنب الأسباب المؤذية ، والبعد عنها .
2 - ومنها : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد .
3 - ومنها : أن لا يستنشقوا الهواء الذي عفن وفسد فيمرضون .
4 - ومنها : أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك ، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .
5 - ومنها : حمية النفوس عن الطيرة والعدوى ، فإنها تتأثر بهما ، فإن الطيرة على من تطير بها .
وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية ، والنهي عن التعرض لأسباب التلف ، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم ، والتفويض ، فالأول : تأديب وتعليم ، والثاني : تفويض وتسليم .
وهذا الحديث من عشرات الأحاديث التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته حفظاً لصحتهم ، وسلامة دينهم ، وهي من الطب النبوي الوقائي ، ولي مصنف مفرد في ذلك .
نسأل الله التمام والقبول .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد طبيب القلوب والأرواح ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6/377) في الأنبياء : باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، ومسلم (2218) في السلام : باب الطاعون والطيرة
(2) أخرجه أحمد (6/145 و255) ، وحسنه محققا الزاد .
(3) أخرجه البخاري (6/377) ، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد .
(4) أخرجه أحمد (4/395 و413 و417) ، والطبراني في (( المعجم الصغير )) (ص17) ، وصححه الحاكم (1/50) ووافقه الذهبي ، وهو كذلك .
(5) الحالة التي يكون عليها الطعام بعد هضمه في المعدة قبل أن يجري في العروق . والكلمة يونانية قديمة تستعمل كثيراً في كتب الطب القديم .
(6) وهذا نراه عند الحيوان كثيراً حينما يُصاب بالمرض ، يعتزل الطعام ويخلد للراحة والدعة تاركاً للطبيعة مقاومة المرض فقد خلق الله سبحانه وتعالى في الطبيعة مقاومة ذاتية للمرض ، بخلاف الإنسان الذي لا يعرف ما يصلح له عند مرضه .
------------------------------------------------------------
كـــن لله طـائـعـاً ... ستجده لك راعـياً
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
موضوع قرأتة فأعجبني
اذا عجبك موضوع من مواضيعي..لا تقل لي شكراً
و لكن أدعو لي (في ظهر الغيب) بالآتي
اللهم اغفر لها ما تقدم من ذنبها و ما تأخر..اللهم احسن خاتمتها
اللهم اغفر لوالديها و ارحمهما و ادخلهما جناتك برحمتك يا أرحم الراحمين
و لكم بالمثل ان شاء الله
وصايا نبوية طبية نافعة
خلق الله الخلق لعبادته وطاعته ، وخلقهم من أرواح وأجساد ، وأنزل لهم من الأحكام الشرعية والتكاليف التعبدية ما يقيم أبدانهم ويهذب أرواحهم ، وأخرج لهم من طيبات الأرض ما يحفظ أبدانهم وأرواحهم
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }.
1 - السلامة في التقليل من الطعام والشراب :
قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
قال بعض الأطباء : إن هذه الآية اشتملت على نصف الطب .
فإن أكثر الأمراض من التخم ، وإدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول .
قلت: وأحذر طعاماً قبل هضم طعام
فمنــه دومــاً سائــر الأسقـام
وقد أوصى الرحمة المهداه - الرحيم بهم - أمته الاعتدال والاقتصاد في سائر شؤونهم ؛ حتى في عبادتهم ولم يفته أن يوصيهم بالاقتصاد في طعامهم
- الذي فيه سلامة أبدانهم - ، وإبعاد عطبهم وتلفهم وهلاكهم ؛ ذلك أن الإكثار من الطعام وما ينتج عنه من التخم والسمنة سبب رئيس لكثير من العلل القاتلة ؛ كالضغط والسكر ، وتصلب الشرايين ، والنقرس ، والأمراض السوداوية ، وكثرة السدد الكبدية والطحالية ، والعلل الرئوية والصدرية ، وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء مدون في كتبهم ونشراتهم الصحية .
ففي (( المسند )) وغيره ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )) .
قلت : فلم يجز الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته أن يتجاوزوا قدر الثلث - والثلث كثير - ، والأفضل أن يقتصروا على لقيمات ؛ تكون دون الثلث بكثير لتقوى معدتهم على هضم الطعام ، والاستفادة منه ، ولكي تتمكن الأجهزة الأخرى من العمل ؛ كجهاز التنفس - الرئتين - ؛ لأن الإنسان إذا شبع ضغطت معدته على الحجاب الحاجز وهو بدوره يضغط على الرئتين ؛ فيمتنع النفس ويصبح صعباً ؛ مما يسبب له الكرب ، حيث يضعف القلب ويجهد ، وبالتالي لا يصل الأ****جين إلى الدم وإلى عروق الدماغ ، فلربما أدى إلى السكتات القلبية والدماغية ، وما يعقب ذلك من موت أو شلل .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (( زاد المعاد )) (4/18) :
(( الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن ، قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضاً متنوعة منها : بطيء الزوال وسريعه . فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير )) .
ومراتب الغذاء ثلاثة :
أحدهما : مرتبة الحاجة .
والثانية : مرتبة الكفاية .
والثالثة : مرتبة الفضلة .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث لنفسه، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، و****ل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً ، وأما إذا كان في بعض الأحيان فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً ، وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا ، والشبع المفرط يُضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته .
2 - الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إلى الحجر الصحي وطبّقه .
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، وعلى من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه )) (1) .
قلت : فأين الغرب من هذا الحديث النبوي الصحيح ؟! الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصول وقواعد (الحجر الصحي) قبل خمسة عشر قرناً من الزمان ، يوم أن كان الغرب في جهل دامس وتخلف طامس ، ولو أنصفوا لشهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة حق ؛ وأنه طبيب الدنيا بأسرها ، كما كان نبي العالمين بأسرهم .
قال الإمام ابن القيم في (( زاد المعاد )) : الطاعون هو عند أهل الطب : ورم رديء يخرج معه تلهب شديد مؤلم جداً يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود ، أو أخضر ، أو أكمد ، ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً ، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع : في الإبط ، وخلف الأذن، والأرنبة ، وفي اللحوم الرخوة .
وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال : (( غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط )) (2) .
قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن ، وخلف الأذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد سمي طاعوناً ، وسببه : دم رديء مائل إلى العفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سمِّي ، يفسد العضو ويغير ما يلين ، وربما رشح دماً أو صديداً ، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والخفقات والغشي .
وهذا الاسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة ، حتى يصير لذلك قتالاً ، فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي ؛ لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع ، وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن ؛ لقربهما من الأعضاء ؛ التي هي رأس ، وأسلمه الأحمر ، ثم الأصفر ؛ والذي إلى السواد ، فلا يفلت منه أحد .
... وهذه القروح والأورام والجراحات ، هي آثار الطاعون وليست نفسه ، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون .
والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :
أحدهما : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه ، وهو المراد في الحديث الصحيح : (( أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ))(3) ، وورد فيه أنه (( وخز الجن ))(4) .
إن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها ، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها ، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً في أجسام بني آدم عند حدوث الوباءوفساد الهواء ؛ كما يجعل لها تصرفاً عند بعض المواد الرديئة التي
تحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما عند هيجان الدم ، والمرة السوداء ، وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن ما لا تتمكن من غيره ، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر ، والدعاء ، والابتهال ، والتضرع ، والصدقة ، وقراءة القرآن ، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ، ويبطل شرها ، ويدفع تأثيرها ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيراً عظيماً في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة ، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ، ولا يكاد ينخرم ، فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له من أنفع الدواء ، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره ، أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها ، فلا يشعر بها ، ولا يريدها ، ليقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً .
قلت : لقد أدرك العالم كله أهمية (الحجر الصحي) خصوصاً بعد اكتشاف المجهر ؛ الذي يكبر الجراثيم والفيروسات مئات ؛ بل آلاف المرات وهذه الميكروبات تحدث أمراضاً فتاكة صعبة ، كميكروبات الكوليرا والطاعون ، والجدري والبلهارسيا ، ومرض آبولا والملاريا ، وغيرها من أمراض فتاكة .
ولقد رأينا قبل سنين كيف قاطعت كل دول العالم الهند عندما أشيع أن الطاعون قد انتشر فيها ، وكيف حجرت على المسافرين القادمين من الهند الدخول إلى أراضيها ، وقادت حملات ضخمة للتطعيم من هذا المرض ، وكذا تفعل الدول مع كل وباء مُعْدٍ ؛ منعاً لانتقال هذا الوباء إلى بلدانها السليمة ، مع حملة واسعة إعلامية من التوعية الصحية لمواطنيها ، فصلى الله على الرحمة المهداة الذي قال الله فيه :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
قال الإمام ابن القيم في (( زاد المعاد )) (4/42-45) :
(( وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه لكمال التحرز منه ؛ فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضاً للبلاء ، وموافاة له في محل سلطانه ، وإعانة للإنسان على نفسه ، وهذا مخالف للشرع والعقل ؛ بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها ، وهي حمية من الأمكنة والأهوية المؤذية .
وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه قولان :
أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله ، والتوكل عليه ، والصبر على أقضيته والرضى بها .
والثاني : ما قاله أئمة الطب : (( أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة ، ويقلل الغذاء ، ويميل إلى التدبير المخفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام ؛ فإنهما مما يجب أن يحذرا ؛ لأن البدن لا يخلو غالباً من فضل رديء كامن فيه ؛ فتثيره الرياضة والحمام ، ويخالطانه بالكيموس(5) الجيد ، وذلك يجلب علة عظيمة ، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة(6) ، وتسكين هيجان الأخلاط ، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة ، وهي مضرة جداً ، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين ، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما )) .
قلت : مع ما فيه من منع نشر العدوى إلى شعوب وبلدان أخرى والمطلوب شرعاً وعقلاً منع الشر ومحاصرته وتقليله ما استطاع العبد إلى ذلك سبيلاً .
وقد ذكر العلماء بعض الحكم في المنع من الدخول إلى الأرض التي وقع بها الطاعون ، منها :
1 - تجنب الأسباب المؤذية ، والبعد عنها .
2 - ومنها : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد .
3 - ومنها : أن لا يستنشقوا الهواء الذي عفن وفسد فيمرضون .
4 - ومنها : أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك ، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .
5 - ومنها : حمية النفوس عن الطيرة والعدوى ، فإنها تتأثر بهما ، فإن الطيرة على من تطير بها .
وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية ، والنهي عن التعرض لأسباب التلف ، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم ، والتفويض ، فالأول : تأديب وتعليم ، والثاني : تفويض وتسليم .
وهذا الحديث من عشرات الأحاديث التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته حفظاً لصحتهم ، وسلامة دينهم ، وهي من الطب النبوي الوقائي ، ولي مصنف مفرد في ذلك .
نسأل الله التمام والقبول .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد طبيب القلوب والأرواح ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6/377) في الأنبياء : باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، ومسلم (2218) في السلام : باب الطاعون والطيرة
(2) أخرجه أحمد (6/145 و255) ، وحسنه محققا الزاد .
(3) أخرجه البخاري (6/377) ، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد .
(4) أخرجه أحمد (4/395 و413 و417) ، والطبراني في (( المعجم الصغير )) (ص17) ، وصححه الحاكم (1/50) ووافقه الذهبي ، وهو كذلك .
(5) الحالة التي يكون عليها الطعام بعد هضمه في المعدة قبل أن يجري في العروق . والكلمة يونانية قديمة تستعمل كثيراً في كتب الطب القديم .
(6) وهذا نراه عند الحيوان كثيراً حينما يُصاب بالمرض ، يعتزل الطعام ويخلد للراحة والدعة تاركاً للطبيعة مقاومة المرض فقد خلق الله سبحانه وتعالى في الطبيعة مقاومة ذاتية للمرض ، بخلاف الإنسان الذي لا يعرف ما يصلح له عند مرضه .
------------------------------------------------------------
كـــن لله طـائـعـاً ... ستجده لك راعـياً
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
موضوع قرأتة فأعجبني
اذا عجبك موضوع من مواضيعي..لا تقل لي شكراً
و لكن أدعو لي (في ظهر الغيب) بالآتي
اللهم اغفر لها ما تقدم من ذنبها و ما تأخر..اللهم احسن خاتمتها
اللهم اغفر لوالديها و ارحمهما و ادخلهما جناتك برحمتك يا أرحم الراحمين
و لكم بالمثل ان شاء الله