إذا كان الابتلاء بفقد الأحبة من أعظم البلاء ، فإن فقد الولد يأتي في مقدمته : ؛ فالأولاد هم فلذات الأكباد وريحانة الفؤاد وربيع القلوب وقرة العيون : وصدق من قال :
إِنَّـما أولادُنَا أكـبادُنا *** أرواحُنا تمشي على الأرضِ
إِنْ هَبَّتِ الريحُ على بعضِهِمْ *** امتنعتْ عيني عَنِ الغَمْـضِ
وفي ماضينا وحاضرنا أمثلة رائعة وقصص مؤثرة لمن ابتلي بفقد الولد فاستقبل البلاء المبين بالصبر واليقين والرضا بقضاء رب العالمين .
وكتب السنة النبوية المشرفة حافلة بتلك المواقف الإيمانية لأباءٍ وأمهاتٍ : ونكتفي هنا بهذا الموقف العجيب والمشهد المهيب لامرأة مؤمنة سجلت لنا كتبُ السنة كثيرا من تضحياتها وثباتها وصدقها وهي أم سليم رضي الله عنها :
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنه يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ. فَقُبِضَ الصّبِيّ، فَلَمّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مِمّا كَانَ، فَقَرّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشّىَ، ثُمّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصّبِيّ، فَلَمّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "أَعَرَسْتُمُ اللّيْلَةَ ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " اللّهُمّ بَارِكْ لَهُمَا " فَوَلَدَتْ غُلاَماً، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتّىَ تَأْتِيَ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَىَ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وَبَعَثَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ ، فَأَخَذَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَمَعَهُ شَيْءٌ؟" قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا ، ثُمّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ ، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصّبِيّ ، ثُمَّ حَنَّكَهُ ، وَسَمّاهُ عَبْدَ اللّهِ . [1]
وفي رواية أخرى لمسلم : عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمّ سُلَيْمٍ رضي الله عنهما ، فَقَالَتْ لأَهْلِهَا: لاَ تُحَدّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتّىَ أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ ، قَالَ: فَجَاءَ فَقَرّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً ، فَأَكَلَ وَشَرِبَ ، فَقَالَ : ثُمّ تَصَنّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنّعُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَوَقَعَ بِهَا ، فَلَمّا رَأَتْ أَنّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا ، قَالَتْ : يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ قَوْماً أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ ؟ قَالَ: لاَ ، قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ ، قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتّىَ تَلَطّخْتُ ثُمّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي فَانْطَلَقَ حَتّىَ أَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "بَارَكَ اللّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا" قَالَ: فَحَمَلَتْ ، .... الحديث [2]
وفي روايةٍ للبخاري : قال سفيان بن عيينة : فقال رجل من الأنصار: فرأيتُ لهما تسعةَ أولاد ، كلُّهم قد قرأ القرآن. [3] أي من ولدهما عبد الله .
قال الإمام النووي رحمه الله : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَنَاقِب لِأُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِنْ عَظِيم صَبْرهَا ، وَحُسْن رِضَاهَا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى ، وَجَزَالَة عَقْلهَا فِي إِخْفَائِهَا مَوْته عَلَى أَبِيهِ فِي أَوَّل اللَّيْل لِيَبِيتَ مُسْتَرِيحًا بِلَا حُزْن ، ثُمَّ عَشَّتْهُ وَتَعَشَّتْ ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ ، وَعَرَّضَتْ لَهُ بِإِصَابَتِهِ فَأَصَابَهَا " [4] .
وفي قول المرأة وهي مكلومةٌ لزوجها : " يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ قَوْماً أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لاَ. قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ." : ما يدل على حنكتها وحكمتها وفصاحتها وحصافتها فضلا عن صبرها وثباتها رضي الله عنها ، وبهذا قدَّمت لنا تلك الصحابية مثلا طيبا للصبر والثبات عند فقد الأحبة ، ولقد عوَّضها الله عن مصيبتها بعشرة : عبد الله الذي كان ثمرة تلك الليلة المباركة ليلة الصبر والثبات وأولاد عبد الله الصالحون التسعة فسبحان من يمنع ليجزل في العطاء :
عَطِيَّتُهُ إِذَا أَعْطَى سُرُورًا *** وَإِنْ أَخَذَ الذي أعطَى أَثَابَا
فَأَيُّ النعمتينِ أجلُّ قدرًا *** وَأَحْمَدُ فِي عَوَاقِبِهَا مَآَبَا
أَنِعْمَتُهُ التي أَهْدَتْ سُرُورًا ؟ *** أَمِ الأُخْرَى التي أَهْدَتْ ثَوَابَا ؟
بَلِ الأُخرَى وإِن نزلتْ بِكُرْهٍ *** أَحَقُّ بِشُكْرِ مَنْ صَبَرَ احتِسَابَا . [5]
------------------------------------
[1]- رواه مسلم في صحيحه كتاب الآداب باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه، وجواز تسميته يوم ولادته، واستحباب، التسمية بعبد اللّهِ وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء عليهم السلام حديث 23 – ( 2144 ).
[2]- رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أبي طلحة الأنصاري رقم: 2144
[3]- صحيح البخاري كتاب الجنائز. باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة الحديث رقم: 1239
[4] - صحيح مسلم بشرح النووي 14/124 وقال أيضا " وَفِيهِ اِسْتِعْمَال الْمَعَارِيض عِنْد الْحَاجَة لِقَوْلِهَا : ( هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ ) فَإِنَّهُ كَلَام صَحِيح ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُوم مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ هَانَ مَرَضُه وَسَهُلَ ، وَهُوَ فِي الْحَيَاة ، وَشَرْطُ الْمَعَارِيض الْمُبَاحَة أَلَّا يَضِيع بِهَا حَقّ أَحَد وَاللَّه أَعْلَم "