أبو بكر عثمان 20/4/1429 26/04/2008 |
لم ينته من أذكار صلاة الفجر، بل أخذ نعليه وسارع بالخروج من المسجد ؛ فكل دقيقة يتأخرها سيزداد طابور الخبز طولاً على طوله.. وبدلاً من أن يمكث ساعتين سيأتي دوره بعد ثلاث أو أربع ساعات، ومن ثَمَّ لن يذهب اليوم إلى عمله، وقد كثر تهديد صاحب العمل له.. ولئن غاب أو تأخر فهو مطرود من عمله لا محالة . يكاد بدنه ينهار من التعب.. ليلة أمس لم يذق النوم إلا قليلاً؛ ذلك أن حفل ابن جاره الحاج سبع كان بالأمس.. وُضعت أربع سماعات عملاقة في مواجهة البيت، وكانت في الحقيقة مدفعية ثقيلة موجهة إلى حجرة نومه.. زلزل صوتها المكان، وكأنه إعلان حرب، لا إعلان زفاف.. ولا أحكي لك عن صوت المغني، فهو ألطف قليلاً من صوت الحمير.. وكلمات الأغنية أفضل كثيرًا من هذيان طفل أبله، ولكن من يستطيع أن يهمس شاكيًا في مواجهة الحاج سبع العرباوي وقبيلته ذات المال والنفوذ.. إذًا لكانت حياة الشاكي في مهبّ الريح، أو تُسحق كرامته تحت الأقدام على أخف الضررين، إن لم يكن المرء من أمثاله أبكمًا فهو على خطر عظيم . تجاوز الشارع الذي به المخبز.. لم يعرف الشارع للوهلة الأولى مع أنه يمر به كل يوم.. ذلك أن الشارع أصابته نوبة نظافة مريبة، فأين أكوام القمامة التي هي من أبرز معالمه؟! والأدهى من ذلك أنه لم يكد يلمح قشة صغيرة أو وريقة أو كيسًا صغيرًا على أرض الشارع! هل يمكن أن تكون شخصية هامة قطنت أخيرًا فيه ؟! لا.. غير معقول.. أيسكن سادتنا في حي الرعاع ؟! وقبل وصوله إلى المخبز رأى جند الشرطة منتشرين بالشارع ، ولما لم ير طابور الخبز !! أصابه الهلع، وخفق قلبه بشدة، وكاد يطير من بين أضلعه.. لا.. لن يعود إلى أولاده بلا خبز، هل حدثت مشادة بين أهل طابور الخبز، وتدخلت الشرطة وأقفلت المخبز حرصًا على الأمن العام؟! أم ربما ضُبط المعلم عنتر -صاحب المخبز- يبيع دقيق المخبز في السوق السوداء، فأُغلق مخبزه.. المهم أنه لا يستطيع أن يعود إلى أولاده بلا خبز، فماذا يأكلون إذًا ؟! والله يعلم أنه اقترض ثمن الخبز وطبق الفول من أخته أم شحات، سقطت دمعة عجز من عينه فمسحها وتمتم في نفسه: اللهم استرنا ولا تفضحنا . توقف أمام المخبز، فزاد كمدًا على كمد، لقد طُليت واجهة المخبز السوداء القذرة، فأضحت بيضاء تسرّ الناظرين.. ووُضعت أمام المخبز منضدة كبيرة تكدست عليها أكياس الخبز، دقق النظر، فإذا هي أرغفة كبيرة بيضاء ناضجة.. فأين إذًا الخبز الأسود الصغير، نصف الناضج، رخيص الثمن؟! فلا قِبل له بشراء هذا الخبز، باهظِ الثمن.. ولّى ليعود بخفيْ حنين، لولا أنه سمع المعلم عنتر، صاحب المخبز، يدعوه.. فقدم إليه.. فأعطاه كيسًا من الخبز فناوله النقود التي معه.. فتبسم له المعلم وقال له: شكرًا، سبحان الله القدير.. المعلم عنتر يبتسم ويقول شكرًا أيضًا.. يبدو أن الساعة قد قربت، أين عبوسه وصراخه في جماهير المشترين أهل الطابور؟ فتح الكيس بحذر؛ فالاحتياط واجب.. وتأمل الخبز، لئلا يكون في الأمر خُدعة، وجده خبزًا طازجًا خاليًا من القش وأعواد الثقاب وخيوط الدوبار..!!!! تهلل وجهه، فيمكنه أن يدّخر ثمن الفول للغد، فهذا الخبز لا يحتاج معه إلى طعام آخر، وهمّ أن ينصرف مبتهجًا، بيد أنه وجد نفسه داخل دائرة، كان أمامه تمامًا مصور ممسكًا بكاميرا تليفزيون ومذيع ممسكًا بميكروفون يتقدم إليه : - مرحبًا.. برنامج "حقيقة لا زيف" يسعده أن يستضيف حضرتك، فهل تسمح لنا أن نسجل معك؟ صمت ولم يجب.. - أعداء الوطن في الداخل والخارج -وهم كثيرًا ما يروجون الشائعات، لأغراض دنيئة لنفوسهم المريضة- يزعمون أن بلدنا السعيد حماه الله يمر بأزمة طاحنة، وهناك تقاتُل للحصول على رغيف الخبز.. وها نحن نصور الحقيقة أمام أعين العالم أجمع، وكما ترى وتلمس.. فكيف ترد على أكاذيبهم الحقيرة؟ ومد الميكروفون إلى فيه ليتكلم، نظر من طرف خفي، فرأى جنود الشرطة العَمالِيق، مفتولي العضلات، يحيطون بالمكان، ورجل بنظارة سوداء ولباس مدني يحملق فيه.. أصابته الرجفة، وكاد أن يغشى عليه.. ماله هو والسياسة والدخول في مجاهلها، وهو الذي لم يدخل قسم شرطة منذ مولده.. لئن قال مقالة لا تروق لهم ربما أخذوا منه كيس الخبز.. بل وأخذوه هو أيضًا.. إذًا لمات من الفزع قبل أن يخطوا به خطوتين، فكر.. وفكر.. ولمح ثغرة في الدائرة حوله، فقبض على كيس الخبز جيدًا.. ومرق من بينهم كالسهم.. وجعل يعدو.. ويعدو.. وقلبه يدق ويدق.. لا يلتفت خلفه، ولا يلوي على شيء . |
بَطُلَ العجب...؟؟؟!!!
omer1086- عضو نشيط جدا
- عدد الرسائل : 273
nbsp :
درجات الاجاده : 0
نقاط : 62040
- مساهمة رقم 1