الناس همم وقدرات.. وعزائم ونوايا.. فمنهم من همته في السحاب، بل فوق السحاب، ومنهم من هـمته في الوحل والشقوق ومصارف المجاري مع الهوام والحشرات والدواب.
منهم من قـلبه معلق بالملأ الأعلى، وبرب السماء والأرض، والمساجد، وحلق العلم.. ومنهم من قلبه معلق بالمراقص والمساخر، والملاعب والسفاسف، والمهاوي والمخازي.. فهو يدمنها ويتـتبعها.. يفتش عنها ولا يبالي أن يدفع عمره وماله وهمته وراء ساعة لهو، أو لمسة محرمة، أو كأس "زفت"، أو استـباحة أنثى هَلوكٍٍ شقية.
ومنهم من يربي أبناءه ليكونوا رءوسًا في الخير والفلاح.. ومنهم من يستنفر قواهم ليكونوا أساتذة في (الهلس) والتفاهة والاستحمار و (الهيافة)!!
في التاريخ
وبالمثال يتضح المقال:
• في التاريخ رجل عجيب، لم أجد له مثيلا (صلى الله عليه وعلى نبـينا وسلم تسليما كثيرا) كان حريصا أن يكون أبناؤه بصمات على وجه الإنسانية، ومنارات في ظلمات الجاهلية، فدعا الكريم المجيب أن يبارك في ذريته، التي تفرعت فرعين كريمين من أرومة نجيـبة مجيدة أصيلة..
فأما الفرع الأكبر والأول فالنبعة التي خرج منها محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي يرجع إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما صلوات الله وسلامه.
وأما الفرع الثاني فخرجت منه سلسلة مباركة أثمرت إسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل.
قارن أخي / أختي معي واعجبا: رجل يخرج من نسله سيد الأولين والآخرين، والكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم.. ويجيب الله تعالى دعاءه في مكة.. بالبركة وفي الذرية..
واسأل أحد المعاصرين عن أمانيه في مستقبل أبنائه تـر عجبا من العجب:
فإن كان المسئول واحدا من أولاء المساكين المفتونـين المغرورين، أراد بناته أن يكن بين مضيفة، ومذيعة، وفنانة، وراقصة، وصحفية، وسيناريست، ومخرجة، و"مانيكان".
وإن كان أكثر عقلا أرادها طبيبة مسالك، أو مهندسة مبانٍ، أو شرطية، أوسيدة أعمال!
أما أبناؤه فحبذا لو كان أحدهم فنانا أو لاعب كرة، أو تاجرا أو مستثمرا، أو نجما أو شبه نجم.
وأما دينه.. ربه.. أخلاقه.. آخرته.. فـ (بلاش تحبّــكها)؛ لأنه متأكد جدا أن (قلبه أبيض وزي الفل)، وأن الدين يسر.. وأن عنده من العمل الصالح ما يكفيه ليدخل الجنة، بعيدا عن دروس الأخلاق والنصائح والقيم والمكارم.. (ويوم القيامة تُـفرج)، و (عيّـشني النهاردة وموّتـني بكرة)!!
ويخرج الابن (خبّاصا)، حشاشا، مرابيا، مراوغا.. مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام.. و.. و"إيه" يعني؟!
• نموذج عجيب آخر من النساء.. امرأة همتها في السماء.. محبة لرب الأرض والسماء.. حملت فلم تتمنّ ما تتمنى التافهات.. بل وجهت همتها نحو معالي الأمنيات.. وقالتها صريحة: لا أريدها فنانة، ولا راقصة معبد، ولا مستعرضة للحمها كالـ (مستنيرات) المتحضرات، بل أريدها عفيفة ستيرة.. مؤمنة مخبتة.. هي لك يا ربي.. موقوفة منذورة لخدمة دينك ومعبدك والقيام بما أمرتَ به، والانتهاء عما نهيتَ عنه، حِلس محراب، وحليفة دعاء، ونضو قيام وصيام.
ولم يخيب الله تعالى رجاءها.. ولم يرد نذرها، (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً)[آل عمران : 37] فخرجت البنت عفيفة طاهرة، بتولا متبتلة، حصانا رزانا.. لتصل إلى أعلى مرتقى عبادي يرقى إليه الآدمي بكسبه.. أعلى الدرجات على الإطلاق، درجة الصديقية، وهي درجة نادرة لم تصل إليها - في التاريخ بطوله - من النساء إلا قليلات من ذوات الهمة، مثل الصديقة الصبور آسية بنت مزاحم ، وأمي الصديقة الثابتة خديجة بنت خويلد، وأمي الصديقة عائشة المبرأة، والصديقة الزهراء النبوية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهن جميعا.
ليس هذا فقط، بل لتـنجب بعدُ واحدا من أعظم من عرفت البشرية على الإطلاق.. ولتخرج للدنيا رجلا من أعظم خمسة في التاريخ (أولي العزم) هو الكريم العظيم الموحد، نبي الله عيسى ابن مريم، عليهما السلام.
هل امرأة عمران هذه امرأة عادية؟ وهل أنجبت امرأة عادية مثل أولئك التافهات المشغولات بآخر صرعات الموضة وتسريحات الشعر، وألوان ظلال الجفون الشيطانية، ومعرفة الفروق الدقيقة في الخطوة والحركة بين رقصات "الفالس والتشا تشا والكاريوكا"، واختلاف درجات هز البطن في الفلامنكو وأسلوب هزي يا نواعم الذي تمارسه (الأسطى نفيسة العالمة)!
نداء عاجل
يأيتها الشابة.. يأيتها العروس.. يأيتها الحامل.. يأيتها الأم..
• لم لا تنوين مثلما نوت امرأة عمران، وتنذرين ما نذرت؟
• لم لا تقولين مثلما قالت هند بنت عتبة عن ابنها: ثكلْتـُه إن لم يسد العرب والعجم جميعا؟ وصحت فراستها في ولدها، رضي الله عنهما.
• لم لا تفعلين ما فعلت أم الغلام اليتيم محمد بن إدريس الذي ملأ طباق الأرض علما بعد ذلك باسم الشافعي؟
• لم لا تفعلين ما فعلت زوج فروخ أم الإمام ربيعة ابن أبي عبد الرحمن.. التي صبرت على الوحدة.. وفرّغت همتها؛ لتخرج للدنيا معلم الأئمة، ربيع العلم، ومفـرّخ الجهابذة.
• لماذا لا تنذرين ما في بطنك مجاهدا أو عالما أو داعية أو عابدا كما فعلت الموفقات؟!
هل ستقولين ما قالت المرأة الصالحة: "إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني".
لعلك تكونين أما لشيخ من شيوخ الإسلام؟
هل تفعلين؟
افعلي.. ولا تنسي أخاك من الدعاء.
(( الشيخ عبد السلام البسيوني))