العقم والتعقيم
وما يتعلق بهما من أحكام فى الإسلام
العقم والإخصاب بإرادة الله حيث قال تعالى لله ملك السموات والأرض يخلق مايشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير )
وإذا كان قد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ( تزوجوا الودود الولود ) فإن هذا لايفيد التنفير من التعقيم ، وتحريم التزوج بها ، وإنما هو لمجرد الإرشاد والتوجيه . إذ لم يعرف فى تاريخ الإسلام من حرم زواج العقيمات مطلقا ، لما فى ذلك من حرج ومشقة ، والله تعالى يقول وما جعل عليكم فى الدين من حرج ) على أن الزواج كما يكون بقصد الإنجاب فإنه يكون بقصد إعفاف النفس والسكن والمودة والرحمة مصداقا لقول الله سبحانه ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فالحديث لاينفر من زواج العقيم ، وإنما يوجه إلى ما هو أهم مقاصد الزواج وهو التناسل ، ملاحظا ما هو الشأن والغالب عند الرغبة فى الزواج .
ومما تقدم يبين أن العقم هو العجز عن الإخصاب الذى يتوقف على قدرة كل من الذكر والإنثى على إنتاج خلايا تناسلية ، ثم قدرة هذه الخلايا على الإتحاد حتى يحدث الحمل .
التعقيم الإصطناعى : نهائى ومؤقت
أن الطب توصل إلى التعقيم الإصطناعى لمنع التنساسل نهائيا أو مؤقتا ، والتعقيم بنوعيه هو الذى نهدف هنا إلى بيان حكم الشريعة الإسلامية بالنسبة له .
التعقيم المؤقت
أما التعقيم المؤقت فهو الذى لايمنع أصل الصلاحية للإنجاب ، وإنما يمنعه طالما الشخص لايرغب فى الإنجاب ، ويبقى أصل الصلاحية إذا مارغب فيه فى أى وقت شاء ، وهذا ما لاتمنعه قواعد الإسلام ، لانه لايعدو أن يكون وسيلة من وسائل تنظيم النسل ، وهى مشروعة وجائزة كما دل على ذلك الكثير من نصوص السنة ، والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم ، وما جاء فى كتب الفقه على إختلاف المذاهب . فقد جاء فى حاشية إبن عابدين على شرح الدر فى الفقه الحنفى نقلا عن صاحب النهر : أنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعا من وصول ماء الرجل إليه لأجل منع الحمل . وصرح الرملى الشافعى فى هذا المقام نقلا عن الزركشى بأن إستعمال مايمنع الحمل قبل إنزال المنى فى حالة الجماع مثلا لامانع منه . ولايعود شىء من ذلك أن يكون تعقيما مؤقتا ، فالحكم لايختلف فى هذا عنه فيما إذا وصل الطب إلى إجراء ما يمنع الحمل مؤقتا ، بحيث يمكنه إعادة الحال إلى ما كان عليه عند الرغبة فى الإنجاب ودون ترتب أى ضرر بالشخص فى جسمه .
التعقيم الدائم
وأما التعقيم الدائم ، وهو معالجة الزوجين أو إحدهما معالجة ، تمنع الإنجاب نهائيا ، وتقطع الأمل فى وقوعه ، فإنه جائز ، إذا وجد ما يدعو إليه من مرض نفسى أو عقلى أو جنسى ثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة وأنه لايزول بالعلاج مطلقا . بل تستطيع القول بأن قواعد الشريعة العامة تقتضى فى مثل هذه الحالة أن يكون مطلوبا لامحظورا ، منعا من وجود ذرية مشوهة ضعيفة ، تحيا حياة مليئة بالعقد والآلام النفسية وهذا ما أفتى من قبل به المرحوم الشيخ محمود شلتوت أحد شيوخ الأزهر السابقين إذ يقول يباح من الحمل دائما أن كان بالزوجين أو إحداهما داء من شأنه أن ينتقل فى الذرية والأحفاد .......) ثم قال وإذا كان فى هذا ما يقلل النسل جزئيا ويحرم بعض الأفراد من الذرية فإن فيه درء مفسدة ، ودفع ضرر أكبر ، هو إنتاج ذرية مصابة بأمراض خبيثة مستعصية . ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والقواعد الشرعية تقتضى باللجوء إلى أخف الضررين . ومثل هؤلاء يكونون ممن تحققت فيهم مشيئة الله بالعقم ، كما جاء فى الآية ( ..... ويجعل من يشاء عقيما )
والتعقيم الدائم الذى يمنع أصل الصلاحية للحمل من غير وجود ضرورة تتطلبه لانعلم فيه نصا من كتاب الله سبحانه ولا فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بل أن بعض النصوص توحى بمخالفة ذلك لمقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ومن أبرز هذه المقاصد التناسل والإنجاب ، كما يشعر بذلك قول الله تعالى ( يأيها الناس إتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ....) وقول الرسول ( تناكحوا تناسلوا ....) كما أن ذلك لايتفق مع الطبيعة البشرية التى أوجدها الله فى كل من الذكر والانثى من حب الابوة والامومة ، وأن يشعر كل منهما بتحقق هذا الوصف ، وأن وراءه من ذريته من يخلفه فى الحياة .
وفضلا عن ذلك فإن الفقهاء السابقين نصوا فى مختلف كتبهم على منع التعقيم الدائم وتحريمه ، فقد نقل البيجرمى الفقيه الشافعى أنه يحرم إستعمال ما يقطع الحمل من أصله أما ما يبطىء الحمل مدة ولايقطعه من أصله فلا يحرم ، بل أن كان لعذر _ كتربية ولد _ لم يكره أيضا ، والاكثره ، كما جاء فى نهاية المحتاج للرملى ( لايجوز كسر الشهوة بنحو كافور بل يكره ذلك كما قال البغوى ، ونقله فى المطلب عن الاصحاب ، لانه نوع من الخصاء أن غلب على الظن أنه لايقطع الشهوة بالكلية ، بل يفترها فى الحال ، ولو أراد إعادتها باستعمال ضد الادوية لامكنه ذلك . وما جزم به فى (( الانوار )) من الحرمة محمول على القطع لها مطلقا . وقال الشبراملسى الشافعى : يجوز إستعمال الادوية التى تفتر الشهوة فقط ولاتقطعها .
والمفهوم من هذا النقول أن الكل يتفق على أن أحداث ما يقطع الشهوة أصالة ، ويمنع الحمل دائما _ أمر محظور شرعا ، إذ فيه تغيير من الطبيعة البشرية ، وسد لباب التناسل نهائيا ، وهو أمر يخالف الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، ولايتفق مع الهدف الاساسى من الزواج . على أن قةاعد الشرع تدل على من ذلك وتحريمه من غير ضرورة . فإن فى الحرمان من النسل نهائيا مضرة ظاهرة ، يأباها الشارع ، وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ( لاضرر ولا ضرار ) وواضح وجه المضرة فى الحرمان من النسل . فإن الشريغة الإسلامية وما تعارفه الناس فى أمر النكاح يقتضى أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان .
والتناسل مطلوب ، والصلاحية له التى خلقها الله فى عباده يجب ألا نزيلها لأن الرسول أشار إلى أنه مقصد أصلى فى الزواج ، فيما رويناه عنه من قوله تناكحوا تناسلوا ..) وقوله تزوجوا الودود الولود ..) . نعم أن التناسل يتحقق بالقلة كما يتحقق بالكثرة ،وأن الابوبة والامومة تتحققان بالقليل من الاولاد إكتفاء بهم ، وقد تحقق التناسل وإشباع الرغبة فى الاحساس بعاطفة الابوة والامومة .
التعقيم قبل الإنجاب وبعده
لكننا نقول : أنه فى تحريم التعقيم الدائم الذى يمنع أصل الصلاحية للانجاب من غير أن تكون هناك ضرورة تقتضيه _ يستوى أن يكون ذلك قبل الانجاب مطلقا ، أو بعد إنجاب بعض الاولاد ، إذ أنا ذلك أيضا يشتمل على مضرة تتنافى مع أغراض الشارع ، وتتنافى مع المصلحة الحقيقية للابوين ، فأن مارزقهما الله به من أولاد قد يفقدانه دفعة واحدة أو على التوالى . فما يكون موقفهما وذد ذاقا طعم الابوة والامومة ؟ كما أنهما او إحدهما قد فقد الصلاحية للانجاب مطلقا . الايقعان بذلك فى محنة ومشقة نفسية قاسية إذ لايستطيعان تدارك ما فاتهما وقد تتحرك فيهما أو فيمن فقد منهما الصلاحية للانجاب عاطفة الامومة والابوة فلا يجدان مجالا لتحقيقها فيندمان أو إحداهما وقت لاينفع الندم .
إذا تعقمت المرأة ثم مات زوجها
وإذا ما اقدمت المرأة على طلب التعقيم برغبتها كى لاتتعرض للحمل مع قدرتها صحيا ، أو طلبة ذلك إستجابة لرغبة الزوج فماذا تصنع ، وما يكون إحساسها وشعورها لو مات عنها ذلك الزوج أو طلقها ؟ الا يمكن أن يكون ذلك سببا فى الحاق الضرر بها ، والاعراض عن التزوج بها ، أو تقليل الرغبة فيها ؟ لأن العقم يعتبر عيبا من العيوب التى تجيز طلب التفريق من القاضى فقد ورد فى فتاوى بعض الفقهاء ما يدل على ذلك . وقد توسع بعض الفقهاء فى إعتبارالعيوب التى يصح التفريق من أجلها وقالوا : إن كل عيب بأحد الزوجين لايحصل منه مقصود الزواج من التناسل والتواد والتراحم أو ينفر منه الآخر يجيز التفريق ، ومن هؤلاء شريح والزهرى وابو ثور وإبن تيمية . وقال إبن القيم : أن من العيوب ... كل عيب منفر أو مفوت لمقصد من مقاصد النكاح ما دام الآخر لايعلم به ولم يقبله . ثم قال : ومن يتدبر مقاصد الشرع فى عدله وحكمته وما إشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول .
وعلى هذا فالعقم عند هؤلاء يكون من العيوب التى يصح التفريق من أجلها ، بل أن إبن القيم قد نص عليه وإستدل له بما روى عن عمر بن الخطاب إذ قال لمن تزوج إمرأة وهو عقيم لايولد له أخبرها إنك عقيم ، وخيرها ) .
ونحن نرى أن التفريق بسبب العقم ينبغى أن يكون مذهب كل من قال أنه كل ما لايمكن للزوجة أو للزوجين المقام معه إلا بضرر ) . فالعقم يدخل فى هذا بدليل قولهم : العيوب التى تفوت بها مقاصد النكاح . وإلا فكيف يرحمون المرأة من عاطفة الآمومة بإمساك الزوج العقيم لها رغم إرادتها .
القول بالكشف الطبى قبل الزواج
وقد يجرنا هذا الكلام إلى القول بأننا من واقع النظر الشرع نحبذ أن يعرض كل من يقدم على الزواج _ نفسه على الكشف الطبى ، ليتعرف سلامته للحياة الزوجية ، ومدى صلاحيته للانجاب ، وحتى يكون كل منهما على بينة من أمر صاحبه ، قبل الالتزام بعقد الزواج الذى هو عقد عمرى لايجوز مع إشتراط التأقيت فيه .
التعقيم للأب المريض والأم المريضة
بقى إن نبين أن من حالات الضرورة التى تجيز التعقيم أن يكون الشخص مريضا بمرض ثبت طبيا أنه لايمكن البرء منه أبدا ، وأنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة إلى نسله وذريته ، بل قلنا أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضى فى مثل هذه الحالة بأن يكون التعقيكم مطلوبا ، منعا من وجود ذرية على هذا الوضع ، ومن حالات الضرورة أيضا ما إذا كانت الزوجة لاتلد ولادة طبيعية ، وإنما تلد بالعملية القيصرية ، وقد سبق أن ولدت بهذا الطريق أكثر من مرة ، ويكون قد ثبت طبيا أن الحمل يؤدى بحياتها ، لاستحالة إجراء هذه العملية لها بعد ذلك . وهذا من قبيل المحافظة على حياة الآم ودفع الضرر والأذى عنها .
الــــــخلاصــــة
وبعد فهذا هو حكم التعقيم المؤقت والتعقيم الدائم لضرورة ولغير ضرورة ، وقد إنتهينا إلى إباحة التعقيم المؤقت ، لانه لايعدو أن يكون نوعا من وسائل تنظيم النسل المشروع ، كما إنتهينا إلى إباحة التعقيم الدائم فى الحالات الماسة التى تقتضيه ، ويحقق التعقيم فيها مصلحة ويدرأ مفسدة ، بل قد يكون التعقيم مطلوبا فى بعض هذه الحالات . أما التعقيم الدائم فى غير حالات الضرورة الخاصه فإنه محظور شرعا لمنافاته لمقاصد الشريعة وقواعدها ، ومعارضته لمصلحة الافراد أنفسهم وإن كانوا عنها غافلين .
وما دام أخذ الحيطة لمنع الحمل _ بالوسائل المتعددة لتنظيم النسل ومنها التعقيم المؤقت _ أمرا ممكنا ومشروعا ، ويؤدى الغرض المنشود ، فما الذى يحوجنا إلى محاولة اللجوء إلى الوسيلة غير المشروعة التى توقع صاحبها فى الندم والخسران المبين . وقد سبق أن نظر مجمع البحوث الإسلامية فى مؤتمره الثانى المنعقد بالقاهرة سنة 1965 هذا الموضوع وقرر أن الاجهاض بقصد تحديد النسل أو إستعمال الوسائل التى تؤدى إلى العقم لهذا الغرض _ أمر لاتجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما ، كما سبق أن أصدرت لجنة الفتوى بالازهر فى 10/3/1953 أن إستعمال دواء لمنع الحمل مؤقتا لايحرم .... وأما إستعمال دواء لمنع الحمل أبدا فهو حرام .
زمن هذا وغيره يتبين أن الإسلام كله سماحة ويسر ، وأنه يساير مصالح الناس دائما ، وينظر فى ذلك أبعد من نظرتهم ، كما يبين أن الحرص على تنظيم النسل من الأفراد ، حتى يكون للابوين قدرة على رعاية أولادهم ، وتوجيههم التوجيه الصحيح ، وتربيتهم التربية التى تعود عليهم وعلى المجتمع بالخير ، إذ الذرية تكون أملا ورجاء حين يرجى خيرها ويؤمن شرها ، وتكون شرا ووبالا حين يفسد أمرها ولاينصلح حالها ، والؤمن القوى خير وأحب إلى الله وإلى الناس من المؤمن الضعيف.
هذا الحرص على تنظيم النسل _ إبتغاء أحسان التربية والرعاية والتوجيه _ لايتوقف على التعقيم والاجهاض وإنما وسائله المشروعة كثيرة ومأمونة والحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ينبغى الاخذ فيها بحذر ، والحق أحق أن يتبع . والله سبحان هالموفق للصواب ، والوجه للخير فى القول والعمل ، والهادى إلى سبيل الرشاد.
وما يتعلق بهما من أحكام فى الإسلام
العقم والإخصاب بإرادة الله حيث قال تعالى لله ملك السموات والأرض يخلق مايشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير )
وإذا كان قد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ( تزوجوا الودود الولود ) فإن هذا لايفيد التنفير من التعقيم ، وتحريم التزوج بها ، وإنما هو لمجرد الإرشاد والتوجيه . إذ لم يعرف فى تاريخ الإسلام من حرم زواج العقيمات مطلقا ، لما فى ذلك من حرج ومشقة ، والله تعالى يقول وما جعل عليكم فى الدين من حرج ) على أن الزواج كما يكون بقصد الإنجاب فإنه يكون بقصد إعفاف النفس والسكن والمودة والرحمة مصداقا لقول الله سبحانه ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فالحديث لاينفر من زواج العقيم ، وإنما يوجه إلى ما هو أهم مقاصد الزواج وهو التناسل ، ملاحظا ما هو الشأن والغالب عند الرغبة فى الزواج .
ومما تقدم يبين أن العقم هو العجز عن الإخصاب الذى يتوقف على قدرة كل من الذكر والإنثى على إنتاج خلايا تناسلية ، ثم قدرة هذه الخلايا على الإتحاد حتى يحدث الحمل .
التعقيم الإصطناعى : نهائى ومؤقت
أن الطب توصل إلى التعقيم الإصطناعى لمنع التنساسل نهائيا أو مؤقتا ، والتعقيم بنوعيه هو الذى نهدف هنا إلى بيان حكم الشريعة الإسلامية بالنسبة له .
التعقيم المؤقت
أما التعقيم المؤقت فهو الذى لايمنع أصل الصلاحية للإنجاب ، وإنما يمنعه طالما الشخص لايرغب فى الإنجاب ، ويبقى أصل الصلاحية إذا مارغب فيه فى أى وقت شاء ، وهذا ما لاتمنعه قواعد الإسلام ، لانه لايعدو أن يكون وسيلة من وسائل تنظيم النسل ، وهى مشروعة وجائزة كما دل على ذلك الكثير من نصوص السنة ، والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم ، وما جاء فى كتب الفقه على إختلاف المذاهب . فقد جاء فى حاشية إبن عابدين على شرح الدر فى الفقه الحنفى نقلا عن صاحب النهر : أنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعا من وصول ماء الرجل إليه لأجل منع الحمل . وصرح الرملى الشافعى فى هذا المقام نقلا عن الزركشى بأن إستعمال مايمنع الحمل قبل إنزال المنى فى حالة الجماع مثلا لامانع منه . ولايعود شىء من ذلك أن يكون تعقيما مؤقتا ، فالحكم لايختلف فى هذا عنه فيما إذا وصل الطب إلى إجراء ما يمنع الحمل مؤقتا ، بحيث يمكنه إعادة الحال إلى ما كان عليه عند الرغبة فى الإنجاب ودون ترتب أى ضرر بالشخص فى جسمه .
التعقيم الدائم
وأما التعقيم الدائم ، وهو معالجة الزوجين أو إحدهما معالجة ، تمنع الإنجاب نهائيا ، وتقطع الأمل فى وقوعه ، فإنه جائز ، إذا وجد ما يدعو إليه من مرض نفسى أو عقلى أو جنسى ثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة وأنه لايزول بالعلاج مطلقا . بل تستطيع القول بأن قواعد الشريعة العامة تقتضى فى مثل هذه الحالة أن يكون مطلوبا لامحظورا ، منعا من وجود ذرية مشوهة ضعيفة ، تحيا حياة مليئة بالعقد والآلام النفسية وهذا ما أفتى من قبل به المرحوم الشيخ محمود شلتوت أحد شيوخ الأزهر السابقين إذ يقول يباح من الحمل دائما أن كان بالزوجين أو إحداهما داء من شأنه أن ينتقل فى الذرية والأحفاد .......) ثم قال وإذا كان فى هذا ما يقلل النسل جزئيا ويحرم بعض الأفراد من الذرية فإن فيه درء مفسدة ، ودفع ضرر أكبر ، هو إنتاج ذرية مصابة بأمراض خبيثة مستعصية . ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والقواعد الشرعية تقتضى باللجوء إلى أخف الضررين . ومثل هؤلاء يكونون ممن تحققت فيهم مشيئة الله بالعقم ، كما جاء فى الآية ( ..... ويجعل من يشاء عقيما )
والتعقيم الدائم الذى يمنع أصل الصلاحية للحمل من غير وجود ضرورة تتطلبه لانعلم فيه نصا من كتاب الله سبحانه ولا فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بل أن بعض النصوص توحى بمخالفة ذلك لمقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ومن أبرز هذه المقاصد التناسل والإنجاب ، كما يشعر بذلك قول الله تعالى ( يأيها الناس إتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ....) وقول الرسول ( تناكحوا تناسلوا ....) كما أن ذلك لايتفق مع الطبيعة البشرية التى أوجدها الله فى كل من الذكر والانثى من حب الابوة والامومة ، وأن يشعر كل منهما بتحقق هذا الوصف ، وأن وراءه من ذريته من يخلفه فى الحياة .
وفضلا عن ذلك فإن الفقهاء السابقين نصوا فى مختلف كتبهم على منع التعقيم الدائم وتحريمه ، فقد نقل البيجرمى الفقيه الشافعى أنه يحرم إستعمال ما يقطع الحمل من أصله أما ما يبطىء الحمل مدة ولايقطعه من أصله فلا يحرم ، بل أن كان لعذر _ كتربية ولد _ لم يكره أيضا ، والاكثره ، كما جاء فى نهاية المحتاج للرملى ( لايجوز كسر الشهوة بنحو كافور بل يكره ذلك كما قال البغوى ، ونقله فى المطلب عن الاصحاب ، لانه نوع من الخصاء أن غلب على الظن أنه لايقطع الشهوة بالكلية ، بل يفترها فى الحال ، ولو أراد إعادتها باستعمال ضد الادوية لامكنه ذلك . وما جزم به فى (( الانوار )) من الحرمة محمول على القطع لها مطلقا . وقال الشبراملسى الشافعى : يجوز إستعمال الادوية التى تفتر الشهوة فقط ولاتقطعها .
والمفهوم من هذا النقول أن الكل يتفق على أن أحداث ما يقطع الشهوة أصالة ، ويمنع الحمل دائما _ أمر محظور شرعا ، إذ فيه تغيير من الطبيعة البشرية ، وسد لباب التناسل نهائيا ، وهو أمر يخالف الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، ولايتفق مع الهدف الاساسى من الزواج . على أن قةاعد الشرع تدل على من ذلك وتحريمه من غير ضرورة . فإن فى الحرمان من النسل نهائيا مضرة ظاهرة ، يأباها الشارع ، وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ( لاضرر ولا ضرار ) وواضح وجه المضرة فى الحرمان من النسل . فإن الشريغة الإسلامية وما تعارفه الناس فى أمر النكاح يقتضى أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان .
والتناسل مطلوب ، والصلاحية له التى خلقها الله فى عباده يجب ألا نزيلها لأن الرسول أشار إلى أنه مقصد أصلى فى الزواج ، فيما رويناه عنه من قوله تناكحوا تناسلوا ..) وقوله تزوجوا الودود الولود ..) . نعم أن التناسل يتحقق بالقلة كما يتحقق بالكثرة ،وأن الابوبة والامومة تتحققان بالقليل من الاولاد إكتفاء بهم ، وقد تحقق التناسل وإشباع الرغبة فى الاحساس بعاطفة الابوة والامومة .
التعقيم قبل الإنجاب وبعده
لكننا نقول : أنه فى تحريم التعقيم الدائم الذى يمنع أصل الصلاحية للانجاب من غير أن تكون هناك ضرورة تقتضيه _ يستوى أن يكون ذلك قبل الانجاب مطلقا ، أو بعد إنجاب بعض الاولاد ، إذ أنا ذلك أيضا يشتمل على مضرة تتنافى مع أغراض الشارع ، وتتنافى مع المصلحة الحقيقية للابوين ، فأن مارزقهما الله به من أولاد قد يفقدانه دفعة واحدة أو على التوالى . فما يكون موقفهما وذد ذاقا طعم الابوة والامومة ؟ كما أنهما او إحدهما قد فقد الصلاحية للانجاب مطلقا . الايقعان بذلك فى محنة ومشقة نفسية قاسية إذ لايستطيعان تدارك ما فاتهما وقد تتحرك فيهما أو فيمن فقد منهما الصلاحية للانجاب عاطفة الامومة والابوة فلا يجدان مجالا لتحقيقها فيندمان أو إحداهما وقت لاينفع الندم .
إذا تعقمت المرأة ثم مات زوجها
وإذا ما اقدمت المرأة على طلب التعقيم برغبتها كى لاتتعرض للحمل مع قدرتها صحيا ، أو طلبة ذلك إستجابة لرغبة الزوج فماذا تصنع ، وما يكون إحساسها وشعورها لو مات عنها ذلك الزوج أو طلقها ؟ الا يمكن أن يكون ذلك سببا فى الحاق الضرر بها ، والاعراض عن التزوج بها ، أو تقليل الرغبة فيها ؟ لأن العقم يعتبر عيبا من العيوب التى تجيز طلب التفريق من القاضى فقد ورد فى فتاوى بعض الفقهاء ما يدل على ذلك . وقد توسع بعض الفقهاء فى إعتبارالعيوب التى يصح التفريق من أجلها وقالوا : إن كل عيب بأحد الزوجين لايحصل منه مقصود الزواج من التناسل والتواد والتراحم أو ينفر منه الآخر يجيز التفريق ، ومن هؤلاء شريح والزهرى وابو ثور وإبن تيمية . وقال إبن القيم : أن من العيوب ... كل عيب منفر أو مفوت لمقصد من مقاصد النكاح ما دام الآخر لايعلم به ولم يقبله . ثم قال : ومن يتدبر مقاصد الشرع فى عدله وحكمته وما إشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول .
وعلى هذا فالعقم عند هؤلاء يكون من العيوب التى يصح التفريق من أجلها ، بل أن إبن القيم قد نص عليه وإستدل له بما روى عن عمر بن الخطاب إذ قال لمن تزوج إمرأة وهو عقيم لايولد له أخبرها إنك عقيم ، وخيرها ) .
ونحن نرى أن التفريق بسبب العقم ينبغى أن يكون مذهب كل من قال أنه كل ما لايمكن للزوجة أو للزوجين المقام معه إلا بضرر ) . فالعقم يدخل فى هذا بدليل قولهم : العيوب التى تفوت بها مقاصد النكاح . وإلا فكيف يرحمون المرأة من عاطفة الآمومة بإمساك الزوج العقيم لها رغم إرادتها .
القول بالكشف الطبى قبل الزواج
وقد يجرنا هذا الكلام إلى القول بأننا من واقع النظر الشرع نحبذ أن يعرض كل من يقدم على الزواج _ نفسه على الكشف الطبى ، ليتعرف سلامته للحياة الزوجية ، ومدى صلاحيته للانجاب ، وحتى يكون كل منهما على بينة من أمر صاحبه ، قبل الالتزام بعقد الزواج الذى هو عقد عمرى لايجوز مع إشتراط التأقيت فيه .
التعقيم للأب المريض والأم المريضة
بقى إن نبين أن من حالات الضرورة التى تجيز التعقيم أن يكون الشخص مريضا بمرض ثبت طبيا أنه لايمكن البرء منه أبدا ، وأنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة إلى نسله وذريته ، بل قلنا أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضى فى مثل هذه الحالة بأن يكون التعقيكم مطلوبا ، منعا من وجود ذرية على هذا الوضع ، ومن حالات الضرورة أيضا ما إذا كانت الزوجة لاتلد ولادة طبيعية ، وإنما تلد بالعملية القيصرية ، وقد سبق أن ولدت بهذا الطريق أكثر من مرة ، ويكون قد ثبت طبيا أن الحمل يؤدى بحياتها ، لاستحالة إجراء هذه العملية لها بعد ذلك . وهذا من قبيل المحافظة على حياة الآم ودفع الضرر والأذى عنها .
الــــــخلاصــــة
وبعد فهذا هو حكم التعقيم المؤقت والتعقيم الدائم لضرورة ولغير ضرورة ، وقد إنتهينا إلى إباحة التعقيم المؤقت ، لانه لايعدو أن يكون نوعا من وسائل تنظيم النسل المشروع ، كما إنتهينا إلى إباحة التعقيم الدائم فى الحالات الماسة التى تقتضيه ، ويحقق التعقيم فيها مصلحة ويدرأ مفسدة ، بل قد يكون التعقيم مطلوبا فى بعض هذه الحالات . أما التعقيم الدائم فى غير حالات الضرورة الخاصه فإنه محظور شرعا لمنافاته لمقاصد الشريعة وقواعدها ، ومعارضته لمصلحة الافراد أنفسهم وإن كانوا عنها غافلين .
وما دام أخذ الحيطة لمنع الحمل _ بالوسائل المتعددة لتنظيم النسل ومنها التعقيم المؤقت _ أمرا ممكنا ومشروعا ، ويؤدى الغرض المنشود ، فما الذى يحوجنا إلى محاولة اللجوء إلى الوسيلة غير المشروعة التى توقع صاحبها فى الندم والخسران المبين . وقد سبق أن نظر مجمع البحوث الإسلامية فى مؤتمره الثانى المنعقد بالقاهرة سنة 1965 هذا الموضوع وقرر أن الاجهاض بقصد تحديد النسل أو إستعمال الوسائل التى تؤدى إلى العقم لهذا الغرض _ أمر لاتجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما ، كما سبق أن أصدرت لجنة الفتوى بالازهر فى 10/3/1953 أن إستعمال دواء لمنع الحمل مؤقتا لايحرم .... وأما إستعمال دواء لمنع الحمل أبدا فهو حرام .
زمن هذا وغيره يتبين أن الإسلام كله سماحة ويسر ، وأنه يساير مصالح الناس دائما ، وينظر فى ذلك أبعد من نظرتهم ، كما يبين أن الحرص على تنظيم النسل من الأفراد ، حتى يكون للابوين قدرة على رعاية أولادهم ، وتوجيههم التوجيه الصحيح ، وتربيتهم التربية التى تعود عليهم وعلى المجتمع بالخير ، إذ الذرية تكون أملا ورجاء حين يرجى خيرها ويؤمن شرها ، وتكون شرا ووبالا حين يفسد أمرها ولاينصلح حالها ، والؤمن القوى خير وأحب إلى الله وإلى الناس من المؤمن الضعيف.
هذا الحرص على تنظيم النسل _ إبتغاء أحسان التربية والرعاية والتوجيه _ لايتوقف على التعقيم والاجهاض وإنما وسائله المشروعة كثيرة ومأمونة والحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ينبغى الاخذ فيها بحذر ، والحق أحق أن يتبع . والله سبحان هالموفق للصواب ، والوجه للخير فى القول والعمل ، والهادى إلى سبيل الرشاد.