إن أعلمَ الناس أعرفهم بالله تعالى وإن فاتته معارف كثيرة، وإن أجهلَ الناس أجهلهم بالله تعالى وإن حصَّل معارف شتى. ومن العلم بالله معرفة سننه ومعرفة تصريفه للأحداث والأحوال. ومن الأمور المهمة التي تختلط على كثير من الناس وتؤثر في فهمهم لطبيعة الأحداث التي تمر بهم، معرفة الخير والشر. فكثير من الناس يظن أن الخير والشر صفتان لازمتان في الأشياء لا ينفكان عنها. وهذا خطأ عظيم يؤدي إلى اضطراب شديد في فهم الانسان لحياته ولحركته فيها.
إن الخير أو الشر ليس في الحقيقة صفة ذاتية لازمة في الأشياء، ولكن الله تعالى هو الذي يجعل الأثر في الأشياء والأحوال فيجعلها خيرا ونعمة وبركة أو يجعلها شرا ونقمة ووبالا. "هو الذي يرسل البرق خوفا وطمعا"، فعنما نرى لمعان البرق ونسمع بعده بقليل زمجرة الرعد، فإننا لا ندري أخير هذا أم شر، فكلا الإحتمالين قائم. ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول المطر "اللهم اجعله سقيا رحمة ولا تجعله سقيا عذاب"، فالمطر هو هو ولكنه قد يكون رحمة وقد يكون عذابا، والله تبارك وتعالى وحده هو الذي يجعل الأثر والفاعلية فيه، والعاقل هو الذي يعرف هذا، فيلجأ إليه سبحانه ليجعله خيرا ونعمة. وينتظم هذا الفهم في كل شيئ وفي كل حال يمر بالإنسان. والمتأمل في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في ذلك عجبا. فمن هديه أنه كان إذا لبس جديدا دعا ربه تعالى "اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له ...". فالملابس الجديدة التي ترتديها قد تكون خيرا وعونا لك على الطاعة وعلى الكسب الحلال، وقد تكون شرا ومدعاة للكبر والعجب أو سببا للافتتان بك، فالملابس نفسها ليس فيها خير أو شر ذاتي، ولكنها تحتمل الأمرين، والله تبارك وتعالى هو الذي يجعل هذا الأثر فيها. ولذلك يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلجأ إليه وندعوه أن يرزقنا خيرها وخير ما صنعت له ونستعيذ من ضد ذلك.
ويضرب الله تعالى أمثلة كثيرة في القرآن لذلك الفهم المغلوط الذي يحسب أن الخير والشر ذاتيان في الأشياء أو الأحوال، وينكر عليهم هذا الفهم. يقول تعالى في وصف أناس في البحر قد أحاط بهم الموج من كل مكان وأوشكوا على الهلاك فتوجهوا لله تعالى بالدعاء أن ينجيهم "وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً" ... أي أن الله تعالى استجاب لهم ونجاهم من لجة البحر وأخطاره وأوصلهم لبر الأمان على الأرض اليابسة، وبدلا من أن يحمدوا الله على ذلك ظنوا أن تلك الأرض اليابسة فيها الخير والنجاة والأمان بذاتها فأعرضوا عن الله واطمأنوا لوجودهم على البر، فوبخهم الله على هذا الفهم "أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ؟ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبا ؟ً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً، أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعا". فتأمل في هذه الآيات، وكيف أمنوا بوجودهم على البر، برغم أن الله تعالى قادر أن يرسل عليهم العذاب في هذا البر بخسف أو زلزال أو بركان يقذفهم بحمم من الحجارة والنار، وقادر أن يعيدهم مرة أخرى إلى البحر ثم يغرقهم فيه بريح أو بغيرها. فالبشر في قبضة الله تعالى في البر والبحر، في كل لحظة وفي كل بقعة. والأمن الحقيقي هو في جوار الله. فالأمن والخطر ليسا ذاتيين في البر والبحر، ولكن الله تعالى هو الذي يجعل فيهما هذا الأثر أو ذاك.
ومن معرفة الله تعالى أن نعرف أن الخير والشر عموما ابتلاء وامتحان من الله تعالى "ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا ترجعون". فالشيئ الذي ظاهره الخير ليس بالضرورة كرامة وشرفا، وإنما هو ابتلاء. والشيئ الذي ظاهره الشر ليس بالضرورة إهانة وكدرا وإنما هو أيضا امتحان وابتلاء. والموفق الذي يحوز هذا الفهم ويتعامل على أساسه، فتنقلب حياته خيرا محضا. وهذا من معاني قوله صلى الله عليه وسلم "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن اصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". فتأمله.