يرسل السماء عليكم مدراراً
حسين بن قاسم القطيش
الحمد لله المعطي بلا امتنان، نحمده على نعمه، ونشكره على فضله وجوده، يعطي من سأله, ويجيب من دعاه, ويسقي من استسقاه، سبحانه ما أحلمه على عباده وأكرمه، شرهم إليه صاعد، وخيره إليهم نازل، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد:
إن القحط الذي يُصيب الناس في أي زمن من الأزمان، أو أي بلد من البلدان؛ إنما هو بسبب الذنوب والعصيان، فكثرة الذنوب - وما أكثرها - تمنع القطر من السماء، وينزل بسببها العقاب من رب الأرض والسماء، يصدق هذا ما جاء في الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يُكشف إلا بتوبة"، وهذا رغم أن الله - عز وجل - لا يؤاخذ الناس بذنوبهم كلها دفعة واحدة في الحياة الدنيا ((وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ))، وإنما ببعض ما كسبوا: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))([1]).
وكما أن الذنب سبب في القحط؛ فإن التوبة سبب في رفع القحط عن العباد؛ لأن التائب يقلع عن الذنوب، ويندم على فعلها؛ فيكسب رضا الله، ويغدق عليه الله من رحماته، وينزل عليه من بركاته، فإرسال السماء بالغيث من الله – عز وجل - مرتبط بالتوبة والاستغفار قال الله – تعالى -: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً))([2]) يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "أي: ارجعوا إليه، وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك، ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار ومنها هذه الآية ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً))، ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر"([3]).
فالتوبة والاستغفار، والرجوع إلى الله وترك الذنوب؛ سبب في إرسال القطر من السماء، يقول الإمام الطبري - رحمه الله -: "فإنكم إن آمنتم بالله، وتبتم من كفركم به؛ أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط"([4])، ويقول الشوكاني - رحمه الله -: "فيه استحباب الاستكثار من الاستغفار؛ لأن منع القطر متسبب عن المعاصي والاستغفار يمحوها فيزول بزوالها المانع من القطر"([5]).
فالاستغفار يستنزل به المطر للآية السابقة، ويمحى به الذنوب كما روى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب)([6]).
قال الأوزاعي - رحمه الله -: "خرج الناس يستسقون؛ فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: ((مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)) وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه، ورفعوا أيديهم، فسقوا([7]).
وهكذا كلما تاب العباد وأنابوا إلى ربهم، ورجعوا إليه بصدق وإخلاص؛ أعطاهم الله ما سألوا، واستجاب لهم دعاءهم، يقول سيد قطب - رحمه الله - بعد أن ذكر الآيات في سورة نوح: "وقد ربط بين الاستغفار وهذه الأرزاق، وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله؛ وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء، جاء في موضع: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))، وجاء في موضع: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ..))، وجاء في موضع: ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ...)) وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون.
والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد، وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاهاً حقيقياً لله بالعمل الصالح؛ والاستغفار المنبئ عن خشية الله، ما من أمة اتقت الله وعبدته، وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً؛ إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض، واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء"([8]).
فالاستغفار والإكثار منه سبب رئيسي في جلب الخيرات، ونزول البركات، وهذه سنة الله فمن تاب إليه واستغفره ورجع وأناب؛ أرسل عليه بركات السماء، وأخرج له خيرات الأرض.
إن دعاء الله – عز وجل – واستسقاءه، وطلب السُقيا منه؛ أمر مشروع فقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أجدبت الأرض، وعم القحط؛ رفع يديه إلى السماء يستسقي، فعن أنس – رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا، فقالوا: يا رسول الله! قحط المطر, واحمر الشجر, وهلكت البهائم فادع الله أن يسقينا، فقال: "اللهم اسقنا .. اللهم اسقنا"، قال: وايم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فأنشأت سحابة فانتشرت، ثم أمطرت، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى وانصرف، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى, فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب صاحوا فقالوا: يا رسول الله! تهدمت البيوت، وانقطعت السبل فادع الله أن يحبسها عنا، فتبسم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فتقشعت عن المدينة، فجعلت تمطر حولها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة كأنها لفي مثل الإكليل"([9])، وجاء عن سالم بن عمر عن أبيه قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب فاذكر قول الشاعر:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل ([10])
فالإقلاع عن المعاصي، والتوبة إلى الله ينبغي أن تكونا فيمن يدعون الله، ويطلبونه السُقيا؛ فقد جاء عن شهر بن حوشب: «أن عيسى بن مريم - عليهما السلام - خرج يستسقي وخرج بالناس، فقال لهم: من كان منكم أذنب ذنباً فليرجع، فجعل الناس يرجعون حتى لم يبق معه إلا رجل أعور، فقال له عيسى - عليه السلام -: أما أذنبت قط، فقال: نظرت بعيني هذه مرة واحدة إلى ما لا يحل لي ففقأتها، فقال له عيسى - عليه السلام -: ادع الله - عز وجل - وأنا أؤمن، فدعا وأمن عيسى - عليه السلام - فسقاهم الله - عز وجل -»([11]).
وعن حدير بن كريب، أن عبد الملك بن مروان أرسل إلى روح بن زنباع: «كيف تقول إذا قحطت السماء؟ قال: يقولون: اللهم الذنب الذي حبست عنا به القطر فإنا نستغفرك منه، فاغفر لنا، واسقنا الغيث ثلاث مرات».
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أغثنا يا مغيث، اللهم أغثنا يا مغيث، غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث الرحمة في أوطاننا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، سحاً طبقاً، دئماً عاماً، نافعاً غير ضار، اللهم لتسقي به العباد، وتغيث به البلاد.
http://www.islamselect.com:المصدر
[1]- (الروم:41).
[2]- (نوح:10-111).
[3]- تفسير ابن كثير (ج 8 / ص 232) بتصرف يسير.
[4]- تفسير الطبري (ج 15 / ص 358).
[5]- نيل الأوطار (ج 6 / ص 76).
[6]- رواه الديلمي وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة.
[7]- تفسير القرطبي (ج 18/ ص 302).
[8]- في ظلال القرآن (ج 7 / ص 346).
[9]- رواه البخاري.
[10]- السنن الكبرى للبيهقي (ج 3/ص 352).
[11]- المطر والرعد والبرق (ج 1 / ص 86).