بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
و الصلاة و السلام على خير خلقه
صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم
الثبات على دين الله
كتبه الشيخ / محمد حسين يعقوب
حفظه الله
أهمية الموضوع تكمن في أمور منها:
- إن الثبات على دين الله مطلـب أسـاسـي لكل مسلم صادق يـريـد سلوك الصراط المستـقـيم بعزيمة ورشد.
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً:"القابض على دينه كالقابض على الجمر".
ولا شك عند كل ذي لُب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.
- كـثـرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات بين المسلمين؛ مما يحمل المسـلـم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى بر آمن.
- ارتباط الموضوع بـالـقـلـب؛ الذي يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنه: "لَقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً".
ويضرب - عليه الصلاة والـسـلام - للقلب مثلاً آخر فيقول: "إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن"، فسبق قول الشاعر:
ما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتـثبـيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
ومن رحمة الله - عز وجل - بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائل كثيرة للثبات، أستعرض معك - أيها القارئ الكريم - بعضاً منها:
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
نـص الله على أن وظـيفـة هذا الكتاب والـغـايـة الـتـي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً هي التثبيت، فقال -تعالى - في معرض الرد على شُبه الكفار: {وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:32،33].
كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟!
* لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
* لأن تـلـك الآيات تـنـزل برداً وسلاماً على قـلـب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
* لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور،فلا يضطرب حكمه،ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
* لأنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: {مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى} [الضحى:3] على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال المشركون: ودع محمد؟!
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: {لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103] لما ادعى كفار قريش أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- إنما يعلمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة؟!
ما هـو أثـر قـول الله - عز وجل -: {أَلا فِي الفـِتـْنـَةِ سَقَـطُوا} [التوبة:49] في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: {ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي}؟ [التوبة:49]؟!
أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات، وإسكاتاً لأهل الباطل..؟
بلى وربي.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الـفـرق بـيـن الذين ربطوا حياتـهـم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً؛ منه ينطلقـون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال الله - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
قال قتادة:" أما {فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيـثـبـتـهـم بالخير والعمل الصالح {وفِي الآخِرَةِ} في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: {ولـَوْ أَنـَّهـُمْ فـَعـَلـُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 166]، أي على الحق".
وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحـة إذا أطـلـت الفتنة برأسها وأدلهم الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يـهـديـهـم الله إليه صراطاً مستقيماً ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله - تعالى -: {وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنـبـَاءِ الـرُّسـُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- للتسلـيـة والتـفـكه، وانما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفئدة المؤمنين معه.
فلو تأملت - يا أخي! - قول الله - عز رجل -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِـهَـتَـكُـمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسـَلامـاً عَلَى إبْـرَاهِـيـمَ * وأَرَادُوا بِـهِ كَـيـْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الانبياء:68-70]، قال ابن عباس: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل".
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغـيـان والعذاب يدخل نفسـك وأنت تتأمل هذه القصة؟
لو تدبرت قول الله - عز وجل - في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَـمـْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61،62]، ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقـة الظالميـن، والـثـبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟
لو استعرضت قصة سحرة فرعون؛ ذلـك المـثـل العجيب للثلة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الـثـبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبـِيـرُكـُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ الـسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عـَذَابـاً وأَبْقَى} [طه:71] - ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: {قَـالـُوا لَـن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها.. يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.
رابعاً: الدعاء:
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: {رَبَّـنـَا لا تُـزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
ولما كانت "قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقـلـب القـلـوب والأبصار ثبت قلبي على دينك».
خامساً: ذكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت. وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد. وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها!! بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً.
وبماذا استعان يوسف - عليه السلام - في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن {معاذ الله}، فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً:
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة؛ طريق الطائفة المـنـصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
وإذا أردت أن تـعـرف قيمة هذا في الثبات، فتأمل وسائلْ نفسك؛ لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين، وتحـيروا، ولم تـثبـت أقدامهم على الصراط المستقـيم، ولا ماتوا عليه، أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم، وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟
فـتـرى أحدهـم يـتـنـقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى عالم الكلام والاعتزال إلى التحريف إلى التصوف والتفويض والإرجاء...
وهكذا أهل البدع يتحيـرون ويضـطـربون، وانظر كيف حرم أهل الكلام الثـبات عند الممات فقال السلف: "أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام".
لكن فكر وتدبر؛ هل رجع أحد من أهل السنة والجماعة عن الطريق سخطةً بـعـد إذ وفـقـه وسلكه؟ فقد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهة عرضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه. ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبـي سفـيـان عن أتـبــاع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال هرقل لأبي سفيان: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قال أبو سفيان: "لا". ثم قال هرقل: "وكذلك الإيـمـان حيـن تخـالـط بشاشته القلوب".
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع أو هداهم الله، فتركوا الباطل، وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس؟!
فإن أردت الثبات؛ فعليك بسبيل المؤمنين.
يتبع
الحمد لله
و الصلاة و السلام على خير خلقه
صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم
الثبات على دين الله
كتبه الشيخ / محمد حسين يعقوب
حفظه الله
أهمية الموضوع تكمن في أمور منها:
- إن الثبات على دين الله مطلـب أسـاسـي لكل مسلم صادق يـريـد سلوك الصراط المستـقـيم بعزيمة ورشد.
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً:"القابض على دينه كالقابض على الجمر".
ولا شك عند كل ذي لُب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.
- كـثـرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات بين المسلمين؛ مما يحمل المسـلـم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى بر آمن.
- ارتباط الموضوع بـالـقـلـب؛ الذي يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنه: "لَقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً".
ويضرب - عليه الصلاة والـسـلام - للقلب مثلاً آخر فيقول: "إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن"، فسبق قول الشاعر:
ما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتـثبـيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
ومن رحمة الله - عز وجل - بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائل كثيرة للثبات، أستعرض معك - أيها القارئ الكريم - بعضاً منها:
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
نـص الله على أن وظـيفـة هذا الكتاب والـغـايـة الـتـي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً هي التثبيت، فقال -تعالى - في معرض الرد على شُبه الكفار: {وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:32،33].
كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟!
* لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
* لأن تـلـك الآيات تـنـزل برداً وسلاماً على قـلـب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
* لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور،فلا يضطرب حكمه،ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
* لأنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: {مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى} [الضحى:3] على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال المشركون: ودع محمد؟!
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: {لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103] لما ادعى كفار قريش أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- إنما يعلمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة؟!
ما هـو أثـر قـول الله - عز وجل -: {أَلا فِي الفـِتـْنـَةِ سَقَـطُوا} [التوبة:49] في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: {ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي}؟ [التوبة:49]؟!
أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات، وإسكاتاً لأهل الباطل..؟
بلى وربي.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الـفـرق بـيـن الذين ربطوا حياتـهـم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً؛ منه ينطلقـون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال الله - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
قال قتادة:" أما {فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيـثـبـتـهـم بالخير والعمل الصالح {وفِي الآخِرَةِ} في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: {ولـَوْ أَنـَّهـُمْ فـَعـَلـُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 166]، أي على الحق".
وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحـة إذا أطـلـت الفتنة برأسها وأدلهم الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يـهـديـهـم الله إليه صراطاً مستقيماً ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله - تعالى -: {وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنـبـَاءِ الـرُّسـُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- للتسلـيـة والتـفـكه، وانما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفئدة المؤمنين معه.
فلو تأملت - يا أخي! - قول الله - عز رجل -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِـهَـتَـكُـمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسـَلامـاً عَلَى إبْـرَاهِـيـمَ * وأَرَادُوا بِـهِ كَـيـْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الانبياء:68-70]، قال ابن عباس: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل".
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغـيـان والعذاب يدخل نفسـك وأنت تتأمل هذه القصة؟
لو تدبرت قول الله - عز وجل - في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَـمـْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61،62]، ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقـة الظالميـن، والـثـبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟
لو استعرضت قصة سحرة فرعون؛ ذلـك المـثـل العجيب للثلة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الـثـبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبـِيـرُكـُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ الـسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عـَذَابـاً وأَبْقَى} [طه:71] - ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: {قَـالـُوا لَـن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها.. يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.
رابعاً: الدعاء:
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: {رَبَّـنـَا لا تُـزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
ولما كانت "قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقـلـب القـلـوب والأبصار ثبت قلبي على دينك».
خامساً: ذكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت. وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد. وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها!! بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً.
وبماذا استعان يوسف - عليه السلام - في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن {معاذ الله}، فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً:
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة؛ طريق الطائفة المـنـصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
وإذا أردت أن تـعـرف قيمة هذا في الثبات، فتأمل وسائلْ نفسك؛ لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين، وتحـيروا، ولم تـثبـت أقدامهم على الصراط المستقـيم، ولا ماتوا عليه، أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم، وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟
فـتـرى أحدهـم يـتـنـقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى عالم الكلام والاعتزال إلى التحريف إلى التصوف والتفويض والإرجاء...
وهكذا أهل البدع يتحيـرون ويضـطـربون، وانظر كيف حرم أهل الكلام الثـبات عند الممات فقال السلف: "أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام".
لكن فكر وتدبر؛ هل رجع أحد من أهل السنة والجماعة عن الطريق سخطةً بـعـد إذ وفـقـه وسلكه؟ فقد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهة عرضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه. ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبـي سفـيـان عن أتـبــاع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال هرقل لأبي سفيان: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قال أبو سفيان: "لا". ثم قال هرقل: "وكذلك الإيـمـان حيـن تخـالـط بشاشته القلوب".
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع أو هداهم الله، فتركوا الباطل، وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس؟!
فإن أردت الثبات؛ فعليك بسبيل المؤمنين.
يتبع