ُعقد في العاصمة اليمنية صنعاء في منتصف مايو الدورة الـ19 للمؤتمر القومي العربي الذي ينعقد تحت شعار "العمل العربي المشترك.. التحديات والآفاق".
وسبق أن عُقد في شهر إبريل 2008م في العاصمة السورية دمشق مؤتمر بعنوان (تجديد الفكر القومي والمصير العربي) وقد استمر المؤتمر منعقدًا لمدة خمسة أيام متواصلة، وكان أبرز المتحدثين فيه المفكر الفلسطيني النصراني صاحب الجنسية الإسرائيلية وعضو الكنيست الصهيوني (عزمي بشارة) الذي أكد في كلمته أن القومية ضرورية ليس للشعب العربي فحسب بل لضمان الدول القطرية قبل وجود الدولة القومية وهي عملية لتوحيد أغلبية الشعب وجامع سياسي وتعبير عن تطلعات سياسية لها تاريخ حديث وقديم.
وقال بشارة: "إن القومية العربية حاجة عملية ماسة وبراغماتية في الوصول إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي وأيضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة".
والحقيقة أن ما يطلق عليهم (القوميون العرب) في حالة انهيار ومأزق تاريخي، وهم يحاولون النفخ في عظام القومية وهي رميم، وإحياء صنم سقط مرارًا وتكرارًا حتى تهدم وتكسر من كثرة السقوط.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يحاولون تلك المحاولات الإحيائية اليائسة في سوريا المعلوم إخفاقها مسبقاً؟ الإجابة هي:
1- أن النظام السوري هو النظام الوحيد الباقي من النظم العربية التي حملت لواء نشر ضلال القومية العربية، وعلى رأس النظام طائفة نصيرية تحكم أغلبية سنية وهي تخشى أن تحرك حالة الحراك الإسلامي المتزايد عند الشعوب العربية الأغلبيةَ المسلمة في سوريا إلى الاحتماء بالإسلام، لذلك تدفع ببقايا مفكري ومنظري الوثنية القومية العربية إلى محاولة إحياء الفكر القومي وتنحية الإسلام كمحرك عقدي للشعب السوري السني.
2- خوفهم على مكتسباتهم التي تتضاءل في ظل ارتفاع ووضوح أبجديات صراع عقدي في العالم.
وبالرجوع إلى البداية التاريخية وواقع القومية العربية نقف وقفات هامة:
1- أولاً نجد أمرًا لافتًا جداً ألا وهو أن أول لبنة في صنم القومية العربية كانت في سوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الضابط الإنجليزي لورانس الذي استغفل العرب المسلمين ولبس ملابسهم وقاد -وهو الإنجليزي النصراني- ما سُمي زورًا بالثورة العربية الكبرى وجعلهم يقاتلون إخوانهم المسلمين في الخلافة الإسلامية العثمانية وهو ما يدل على قمة خبث هذا الرجل وقمة خيبة من اتبعه من العرب حتى أطلقوا عليه اسم لورانس العرب، وقد كتب في مذكراته ما يدل على صناعته للفكر القومي العربي حيث قال: "وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا وفي الحج وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية (يقصد الإسلام)؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام (القرآن والسنة)، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟ هذا ما كان يجول بخاطري طوال الطريق" هكذا كانت سوريا في المخطط الصليبي، ولم يتأخر لورانس في تنفيذ مخططه على الأرض، فقد كان خبيرًا بكيفية التحايل على العرب، وبدأ يغرس الفكر القومي بديلاً عن الإسلام عند العرب وقد سمى مذكراته (أعمدة الحكمة السبعة) ومن اللافت أن قوات الاحتلال البريطاني في العراق الآن تنصح جنودها بقراءة مذكراته للاستفادة منها في التعامل مع العرب!؟
والواضح أن الشام كانت حاضرة في ذهن الصليبيين، وكيف لا تحضر وفيها دمشق عاصمة الخلافة الأموية التي حققت انتصارات عظيمة على الفرس والروم وفي المشرق والمغرب، لذلك نجد أنه قد حمل لواء فكرة القومية العربية فيما بعد نصارى الشام في سوريا ولبنان، الذين أسسوا الكثيرَ من الجمعيات الأدبية والعلمية في دمشق وبيروت والقاهرة لتفعيل ونشر الفكرة في بلاد المسلمين العرب ليشهد العالم العربي تغييرًا كبيرًا في تراجعه عن حمل رسالة الإسلام.
2- اتبع صنمَ القومية العربية الكثيرُ من أبناء المسلمين السذج خاصة الذين تأثروا بالفكر الغربي، الذين آمنوا بالعلمانية فعملوا على إقامة الرابط القومي مثل اللغة والتاريخ بدلاً من رابط الدين الإسلامي ويلاحظ أن الكثيرين ممن أشربت قلوبهم فكرة القومية العربية رفضوا حكم الإسلام شريعة ومنهاجاً ليتضح عمق تأثرهم بالأفكار الغربية التي أعيدت صياغتها باسم القومية العربية.
وكان لافتًا قول أحد شعرائهم:
يا مسلمون ويا نصارى دينكم دين العروبة واحد لا اثنان
3- استطاعت الأنظمة التي احتضنت فكرة القومية العربية -في كل من سوريا ومصر والعراق ثم ليبيا عن طريق الاستبداد والقهر والاستيلاء على أجهزة الإعلام وتعميق الجهل بالإسلام ومحاربة الدعاة المصلحين- أن تسلب المسلمين أصحاب الدين الحق والأرض والسيادة، بل والأكثرية العددية تمكنت من أن تسلبهم حقهم في السيادة على أرضهم بعقيدتهم الإسلامية لصالح الأفكار الوثنية كالقومية والوطنية وكان لافتًا دفاع النصارى والدروز وغيرهم من الأقليات عن القومية العربية بكل ما يستطيعون، في الوقت الذي لم يتنازلوا فيه عن عصبياتهم الطائفية المضادة للإسلام والمسلمين مرة واحدة.
ومع ذلك لم يستقر ولم ينجح الفكر القومي بين المسلمين؛ لأن عناصر القومية غير صالحة لتكوين أمة متحدة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون خالياً على الدوام من عقيدة يعمل لها ويعطي لها ويبذل من أجلها ويستظل بفكرها وينطلق نحو أهدافها.
4- كان من أسوأ ضلالهم حزب البعث العربي الذي أسسه النصراني ميشيل عفلق القائل في كتابه (سبيل البعث) ما يفضح عداءه للإسلام كدين مهيمن يجب الانقياد له وحده إذ قال: "إن الأمة العربية تفصح عن نفسها بأشكال متنوعة في تشريع حمورابي، وتارة في الشعر الجاهلي، وتارة بدين محمد (!!) وأخرى بعصر المأمون".
5- سقوط النظام الشيوعي تبعه سقوط مدوٍّ للقومية العربية ومنظريها، والمتأمل والمتابع لحركة القومية العربية فكراً وأنظمةَ حكمٍ يجد بوضوح التصاقهم بالاتحاد السوفييتي والفكر الشيوعي، فكثير من مفكريها ومنظريها كانت قبلتهم الاتحاد السوفييتي، وكذلك كان الحكام المتسربلون بثوب القومية العربية كان تحالفهم مع الاتحاد السوفييتي، وكانوا يدورون في فلكه عسكرياً وسياسياً وصناعياً، وهي علاقة لافتة للنظر بين القومية العربية والشيوعية.
لذلك ليس غريباً أن تعادي النظم القومية ومفكروها الإسلام والإسلاميين بكل الطرق والوسائل، وأن تعصف بالحريات، ولقد وضح ذلك في سياسات النظم وكتابات مفكري القومية وأشعارهم.
ومع سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار قوته العالمية اهتزت القومية العربية تماماً وسدنتها من حكام ومفكرين وما زال بعض كهنة القومية العربية تملأ كتاباتِهم المرارةُ والحقد نحو الجهاد الأفغاني ضد الروس الذي كان الضربة القاصمة في انهيار الاتحاد السوفييتي.
6- لقد سعى أولئك القوميون إلى تقويض كل وحدة تجتمع على الإسلام.. فاعترضوا بشدة على فكرة الجامعة الإسلامية في بداية القرن العشرين، وسعوا إلى تأسيس الجامعة العربية (واللافت أنها أسست برعاية الاحتلال البريطاني ؟؟؟؟!!!!!!)؛ ولم تستطع الجامعة العربية أن تصنع شيئاً أمام الاحتلال اليهودي لفلسطين؟ غير أنها مسخت قضية فلسطين فجعلتها عربية بدلاً أن تكون إسلامية، وأعدوا الجيوش العربية عام 1948م، فكانت الهزيمة والخسران العربي وترسخت دولة الاحتلال اليهودي؛ لأن الجيوش لم تكن رايتها لله ولا جهاداً في سبيل الله، ومن اللافت المؤسف أنهم ما زالوا يصرون على مقولتهم الفاسدة: "فلسطين عربية"، مع أنها ضيعت فلسطين في مقابل أن تباشير النصر تتحقق فقط على يد من قالوا: "فلسطين إسلامية"؛ أفلا يتعظون؟؟
7- في ظل تساقط الفكر القومي وتساقط الأنظمة التي تحميه وانتشار الصحوة الإسلامية عمل القوميون على تغيير خطابهم الموجه ضد الإسلام والتلبيس على بعض الإسلاميين بأنهم لا يخالفون الإسلام، فظهر المؤتمر القومي العربي الإسلامي، وهو خليط تجمعه السياسة ولا يجمعه وحدة العقيدة، يدل على ذلك أن القوميين لا يعنيهم مطلقاً قضاياً المسلمين المعاصرة مثل الاحتلال الصليبي لأفغانستان والروسي للشيشان والهندي لكشمير، ومن قبل لم يهتموا أو يلتفتوا لقضايا المسلمين في البوسنه والهرسك أو كوسوفو، فهم منعزلون عن الإسلام.
لكنهم بخبث واضح استطاعوا أن ينفذوا ببعض المصطلحات على الساحة الإعلامية مثل: العدو الأجنبي بديلاً عن العدو الكافر، وأعداء العروبة بديلا عن أعداء الإسلام، وشهداء الوطن بديلاً عن شهداء الإسلام.
8- لم يعد للقوميين دولة تحميهم غير سوريا التي تحتمي بإيران، لذلك كان لافتًا أن القوميين العرب تغاضوا عن سقوط النظام العراقي القومي ومذابح العرب السنة في العراق من قبل الصفويين الفرس في انتهازية لافتة مقابل تمتعهم بالاحتضان السوري لصنمهم القومي.
9- انتشار الدعوة والمفاهيم الإسلامية طرد الفكر القومي في أماكن كثيرة خاصة في أماكن المقاومة التي تميزت بخصوصيتها ورايتها الإسلامية في فلسطين والعراق، لذلك يحاولون خطفها وتحويل خطابها الإسلامي المتميز إلى ما يطلق عليه الخطاب الوطني القومي أو تفكيكها بمؤامرات لا تنتهي.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن القوميين في غمرة صوتهم العالي ضد مقاومة الإمبريالية الأمريكية لا يلتفتون مطلقًا إلى مقاومة الاحتلال في الصومال مع أن الصومال دولة عربية والعدو أجنبي إثيوبي وأمريكي، ولكن الصومال لا تقدم لهم امتيازات وأموالا كي يدافعوا عنها!!.
10- موقف الإسلام والعصبية للقومية العربية:
لقد رفض الإسلام العصبية القومية رفضاً تاماً، وجعلها نزعة جاهلية منتنة، وأقام بين المسلمين الأخوة الإيمانية الإسلامية برابطة وحدة الإيمان بالله الواحد الأحد، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمسلمون في روسيا إخوة للمسلمين في أمريكا وإفريقيا، وكذلك المسلمون في المغرب العربي إخوة للمسلمين في الهند والصين، الكل يرتبط بعضه ببعض بوحدة الإسلام التي أوجبت عليهم حقوقاً لبعضهم على بعض؛ فالحق -تبارك وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فالمسلم في إندونيسيا يألم لمصاب إخوته في فلسطين، والمسلم في إفريقيا يحزن لما أصاب إخوانه في العراق، فقد [روى البخاري ومسلم] عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى».
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمجحفة: فلما خرج ولم يجد مناخاً تنزل على أيدي الرجال فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عصبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله؛ والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب.» قال الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ثم قال: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
والإسلام بكل وضوح يرفض التعصب إلى جنس أو لون؛ فلا تاريخ ولا جغرافية ولا لغة ولا جنس ولا لون، فبلال الحبشي مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وسلمان الفارسي قال عنه صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا آل البيت»(1)، وفي خطبة الوداع عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب».
وأخيرًا ما زالت فلول القوميين العرب يسيطرون على بعض وسائل الإعلام في المنطقة العربية مع الإخفاق والانهيار المروع لمشروعهم، ومع أن عدوهم في أدبياتهم هو الإمبريالية الأمريكية إلا أن بعضهم تحول إلى الارتماء تحت أقدام الولايات المتحدة الأمريكية، والآخرون يعادون الإسلاميين والدعاة بطرق شتى، إلا أن الأخطر هو تحسين بعض الإسلاميين للفكر القومي العربي والمشاركة في مؤتمراتهم وخطابهم القومي بغير تميز إسلامي واضح تحت عباءة الضرورة السياسية، وهو ما يجعل فعل أولئك النفر كتضميد لجراح القوميين الفاسدة التي أثخنت، وستر لعوراتهم الفكرية التي انفضحت، ومع تصاعد العداء للإسلام في كل مكان وتميز لغة العداء وأفعاله وتميز عقائدية الصراع والحرب على المسلمين وجب على المسلمين جميعاً التطهر من رجس كل فكر يخالف الإسلام والتحصن بالإسلام فقط، فهو الحصن القوي المنيع، وبه ومنه النصر على كل الأعداء.
__________________________
(1)درجة الحديث: ضعيف جداً.
وسبق أن عُقد في شهر إبريل 2008م في العاصمة السورية دمشق مؤتمر بعنوان (تجديد الفكر القومي والمصير العربي) وقد استمر المؤتمر منعقدًا لمدة خمسة أيام متواصلة، وكان أبرز المتحدثين فيه المفكر الفلسطيني النصراني صاحب الجنسية الإسرائيلية وعضو الكنيست الصهيوني (عزمي بشارة) الذي أكد في كلمته أن القومية ضرورية ليس للشعب العربي فحسب بل لضمان الدول القطرية قبل وجود الدولة القومية وهي عملية لتوحيد أغلبية الشعب وجامع سياسي وتعبير عن تطلعات سياسية لها تاريخ حديث وقديم.
وقال بشارة: "إن القومية العربية حاجة عملية ماسة وبراغماتية في الوصول إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي وأيضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة".
والحقيقة أن ما يطلق عليهم (القوميون العرب) في حالة انهيار ومأزق تاريخي، وهم يحاولون النفخ في عظام القومية وهي رميم، وإحياء صنم سقط مرارًا وتكرارًا حتى تهدم وتكسر من كثرة السقوط.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يحاولون تلك المحاولات الإحيائية اليائسة في سوريا المعلوم إخفاقها مسبقاً؟ الإجابة هي:
1- أن النظام السوري هو النظام الوحيد الباقي من النظم العربية التي حملت لواء نشر ضلال القومية العربية، وعلى رأس النظام طائفة نصيرية تحكم أغلبية سنية وهي تخشى أن تحرك حالة الحراك الإسلامي المتزايد عند الشعوب العربية الأغلبيةَ المسلمة في سوريا إلى الاحتماء بالإسلام، لذلك تدفع ببقايا مفكري ومنظري الوثنية القومية العربية إلى محاولة إحياء الفكر القومي وتنحية الإسلام كمحرك عقدي للشعب السوري السني.
2- خوفهم على مكتسباتهم التي تتضاءل في ظل ارتفاع ووضوح أبجديات صراع عقدي في العالم.
وبالرجوع إلى البداية التاريخية وواقع القومية العربية نقف وقفات هامة:
1- أولاً نجد أمرًا لافتًا جداً ألا وهو أن أول لبنة في صنم القومية العربية كانت في سوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الضابط الإنجليزي لورانس الذي استغفل العرب المسلمين ولبس ملابسهم وقاد -وهو الإنجليزي النصراني- ما سُمي زورًا بالثورة العربية الكبرى وجعلهم يقاتلون إخوانهم المسلمين في الخلافة الإسلامية العثمانية وهو ما يدل على قمة خبث هذا الرجل وقمة خيبة من اتبعه من العرب حتى أطلقوا عليه اسم لورانس العرب، وقد كتب في مذكراته ما يدل على صناعته للفكر القومي العربي حيث قال: "وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا وفي الحج وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية (يقصد الإسلام)؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام (القرآن والسنة)، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟ هذا ما كان يجول بخاطري طوال الطريق" هكذا كانت سوريا في المخطط الصليبي، ولم يتأخر لورانس في تنفيذ مخططه على الأرض، فقد كان خبيرًا بكيفية التحايل على العرب، وبدأ يغرس الفكر القومي بديلاً عن الإسلام عند العرب وقد سمى مذكراته (أعمدة الحكمة السبعة) ومن اللافت أن قوات الاحتلال البريطاني في العراق الآن تنصح جنودها بقراءة مذكراته للاستفادة منها في التعامل مع العرب!؟
والواضح أن الشام كانت حاضرة في ذهن الصليبيين، وكيف لا تحضر وفيها دمشق عاصمة الخلافة الأموية التي حققت انتصارات عظيمة على الفرس والروم وفي المشرق والمغرب، لذلك نجد أنه قد حمل لواء فكرة القومية العربية فيما بعد نصارى الشام في سوريا ولبنان، الذين أسسوا الكثيرَ من الجمعيات الأدبية والعلمية في دمشق وبيروت والقاهرة لتفعيل ونشر الفكرة في بلاد المسلمين العرب ليشهد العالم العربي تغييرًا كبيرًا في تراجعه عن حمل رسالة الإسلام.
2- اتبع صنمَ القومية العربية الكثيرُ من أبناء المسلمين السذج خاصة الذين تأثروا بالفكر الغربي، الذين آمنوا بالعلمانية فعملوا على إقامة الرابط القومي مثل اللغة والتاريخ بدلاً من رابط الدين الإسلامي ويلاحظ أن الكثيرين ممن أشربت قلوبهم فكرة القومية العربية رفضوا حكم الإسلام شريعة ومنهاجاً ليتضح عمق تأثرهم بالأفكار الغربية التي أعيدت صياغتها باسم القومية العربية.
وكان لافتًا قول أحد شعرائهم:
يا مسلمون ويا نصارى دينكم دين العروبة واحد لا اثنان
3- استطاعت الأنظمة التي احتضنت فكرة القومية العربية -في كل من سوريا ومصر والعراق ثم ليبيا عن طريق الاستبداد والقهر والاستيلاء على أجهزة الإعلام وتعميق الجهل بالإسلام ومحاربة الدعاة المصلحين- أن تسلب المسلمين أصحاب الدين الحق والأرض والسيادة، بل والأكثرية العددية تمكنت من أن تسلبهم حقهم في السيادة على أرضهم بعقيدتهم الإسلامية لصالح الأفكار الوثنية كالقومية والوطنية وكان لافتًا دفاع النصارى والدروز وغيرهم من الأقليات عن القومية العربية بكل ما يستطيعون، في الوقت الذي لم يتنازلوا فيه عن عصبياتهم الطائفية المضادة للإسلام والمسلمين مرة واحدة.
ومع ذلك لم يستقر ولم ينجح الفكر القومي بين المسلمين؛ لأن عناصر القومية غير صالحة لتكوين أمة متحدة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون خالياً على الدوام من عقيدة يعمل لها ويعطي لها ويبذل من أجلها ويستظل بفكرها وينطلق نحو أهدافها.
4- كان من أسوأ ضلالهم حزب البعث العربي الذي أسسه النصراني ميشيل عفلق القائل في كتابه (سبيل البعث) ما يفضح عداءه للإسلام كدين مهيمن يجب الانقياد له وحده إذ قال: "إن الأمة العربية تفصح عن نفسها بأشكال متنوعة في تشريع حمورابي، وتارة في الشعر الجاهلي، وتارة بدين محمد (!!) وأخرى بعصر المأمون".
5- سقوط النظام الشيوعي تبعه سقوط مدوٍّ للقومية العربية ومنظريها، والمتأمل والمتابع لحركة القومية العربية فكراً وأنظمةَ حكمٍ يجد بوضوح التصاقهم بالاتحاد السوفييتي والفكر الشيوعي، فكثير من مفكريها ومنظريها كانت قبلتهم الاتحاد السوفييتي، وكذلك كان الحكام المتسربلون بثوب القومية العربية كان تحالفهم مع الاتحاد السوفييتي، وكانوا يدورون في فلكه عسكرياً وسياسياً وصناعياً، وهي علاقة لافتة للنظر بين القومية العربية والشيوعية.
لذلك ليس غريباً أن تعادي النظم القومية ومفكروها الإسلام والإسلاميين بكل الطرق والوسائل، وأن تعصف بالحريات، ولقد وضح ذلك في سياسات النظم وكتابات مفكري القومية وأشعارهم.
ومع سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار قوته العالمية اهتزت القومية العربية تماماً وسدنتها من حكام ومفكرين وما زال بعض كهنة القومية العربية تملأ كتاباتِهم المرارةُ والحقد نحو الجهاد الأفغاني ضد الروس الذي كان الضربة القاصمة في انهيار الاتحاد السوفييتي.
6- لقد سعى أولئك القوميون إلى تقويض كل وحدة تجتمع على الإسلام.. فاعترضوا بشدة على فكرة الجامعة الإسلامية في بداية القرن العشرين، وسعوا إلى تأسيس الجامعة العربية (واللافت أنها أسست برعاية الاحتلال البريطاني ؟؟؟؟!!!!!!)؛ ولم تستطع الجامعة العربية أن تصنع شيئاً أمام الاحتلال اليهودي لفلسطين؟ غير أنها مسخت قضية فلسطين فجعلتها عربية بدلاً أن تكون إسلامية، وأعدوا الجيوش العربية عام 1948م، فكانت الهزيمة والخسران العربي وترسخت دولة الاحتلال اليهودي؛ لأن الجيوش لم تكن رايتها لله ولا جهاداً في سبيل الله، ومن اللافت المؤسف أنهم ما زالوا يصرون على مقولتهم الفاسدة: "فلسطين عربية"، مع أنها ضيعت فلسطين في مقابل أن تباشير النصر تتحقق فقط على يد من قالوا: "فلسطين إسلامية"؛ أفلا يتعظون؟؟
7- في ظل تساقط الفكر القومي وتساقط الأنظمة التي تحميه وانتشار الصحوة الإسلامية عمل القوميون على تغيير خطابهم الموجه ضد الإسلام والتلبيس على بعض الإسلاميين بأنهم لا يخالفون الإسلام، فظهر المؤتمر القومي العربي الإسلامي، وهو خليط تجمعه السياسة ولا يجمعه وحدة العقيدة، يدل على ذلك أن القوميين لا يعنيهم مطلقاً قضاياً المسلمين المعاصرة مثل الاحتلال الصليبي لأفغانستان والروسي للشيشان والهندي لكشمير، ومن قبل لم يهتموا أو يلتفتوا لقضايا المسلمين في البوسنه والهرسك أو كوسوفو، فهم منعزلون عن الإسلام.
لكنهم بخبث واضح استطاعوا أن ينفذوا ببعض المصطلحات على الساحة الإعلامية مثل: العدو الأجنبي بديلاً عن العدو الكافر، وأعداء العروبة بديلا عن أعداء الإسلام، وشهداء الوطن بديلاً عن شهداء الإسلام.
8- لم يعد للقوميين دولة تحميهم غير سوريا التي تحتمي بإيران، لذلك كان لافتًا أن القوميين العرب تغاضوا عن سقوط النظام العراقي القومي ومذابح العرب السنة في العراق من قبل الصفويين الفرس في انتهازية لافتة مقابل تمتعهم بالاحتضان السوري لصنمهم القومي.
9- انتشار الدعوة والمفاهيم الإسلامية طرد الفكر القومي في أماكن كثيرة خاصة في أماكن المقاومة التي تميزت بخصوصيتها ورايتها الإسلامية في فلسطين والعراق، لذلك يحاولون خطفها وتحويل خطابها الإسلامي المتميز إلى ما يطلق عليه الخطاب الوطني القومي أو تفكيكها بمؤامرات لا تنتهي.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن القوميين في غمرة صوتهم العالي ضد مقاومة الإمبريالية الأمريكية لا يلتفتون مطلقًا إلى مقاومة الاحتلال في الصومال مع أن الصومال دولة عربية والعدو أجنبي إثيوبي وأمريكي، ولكن الصومال لا تقدم لهم امتيازات وأموالا كي يدافعوا عنها!!.
10- موقف الإسلام والعصبية للقومية العربية:
لقد رفض الإسلام العصبية القومية رفضاً تاماً، وجعلها نزعة جاهلية منتنة، وأقام بين المسلمين الأخوة الإيمانية الإسلامية برابطة وحدة الإيمان بالله الواحد الأحد، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمسلمون في روسيا إخوة للمسلمين في أمريكا وإفريقيا، وكذلك المسلمون في المغرب العربي إخوة للمسلمين في الهند والصين، الكل يرتبط بعضه ببعض بوحدة الإسلام التي أوجبت عليهم حقوقاً لبعضهم على بعض؛ فالحق -تبارك وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فالمسلم في إندونيسيا يألم لمصاب إخوته في فلسطين، والمسلم في إفريقيا يحزن لما أصاب إخوانه في العراق، فقد [روى البخاري ومسلم] عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى».
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمجحفة: فلما خرج ولم يجد مناخاً تنزل على أيدي الرجال فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عصبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله؛ والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب.» قال الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ثم قال: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
والإسلام بكل وضوح يرفض التعصب إلى جنس أو لون؛ فلا تاريخ ولا جغرافية ولا لغة ولا جنس ولا لون، فبلال الحبشي مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وسلمان الفارسي قال عنه صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا آل البيت»(1)، وفي خطبة الوداع عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب».
وأخيرًا ما زالت فلول القوميين العرب يسيطرون على بعض وسائل الإعلام في المنطقة العربية مع الإخفاق والانهيار المروع لمشروعهم، ومع أن عدوهم في أدبياتهم هو الإمبريالية الأمريكية إلا أن بعضهم تحول إلى الارتماء تحت أقدام الولايات المتحدة الأمريكية، والآخرون يعادون الإسلاميين والدعاة بطرق شتى، إلا أن الأخطر هو تحسين بعض الإسلاميين للفكر القومي العربي والمشاركة في مؤتمراتهم وخطابهم القومي بغير تميز إسلامي واضح تحت عباءة الضرورة السياسية، وهو ما يجعل فعل أولئك النفر كتضميد لجراح القوميين الفاسدة التي أثخنت، وستر لعوراتهم الفكرية التي انفضحت، ومع تصاعد العداء للإسلام في كل مكان وتميز لغة العداء وأفعاله وتميز عقائدية الصراع والحرب على المسلمين وجب على المسلمين جميعاً التطهر من رجس كل فكر يخالف الإسلام والتحصن بالإسلام فقط، فهو الحصن القوي المنيع، وبه ومنه النصر على كل الأعداء.
__________________________
(1)درجة الحديث: ضعيف جداً.