لعلامة صالح بن فوزان الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد , وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن موضوع الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى موضوع مهم , فالدعوة إلى الله تعني طلب الدخول في دين الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] .
وعبادتهم لله يرجع نفعها إليهم ؛ لأنهم هم المحتاجون إلى عبادة الله سبحانه وتعالى, أما الله جل وعلا فإنه غني عنهم وعن عبادتهم , قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] .
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا عبادي, لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً , لو أن أولكم وآخركم, وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.. يا عبادي , إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها , فمن وجد خيراً فليحمد الله , ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (7)
فالعباد هم الذين بحاجة إلى أن يعبدوا الله من أجل أن ينالوا رضا الله ومغفرته ورحمته , من أجل أن يدخلهم جنته وينقذهم من عذابه, ولذلك خلقهم الله سبحانه وتعالى , ولكن اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يختبرهم وأن يمتحنهم ؛ ليتميز بذلك أهل طاعته من أهل معصيته, والشيطان وحزبه يدعون الناس إلى الخروج عن عبادة الله وإلى معصية الله وإلى اتباع الأهواء والشهوات ؛ ولذلك أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل يدعون الناس إلى الخير , والشياطين تدعوهم إلى الشر {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] , {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] ,
{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [إبراهيم: 10] .
فالله يدعو عباده إلى أن يعبدوه ويتوبوا إليه ويستغفروه وأرسل الرسل يدعون الناس إلى ذلك , وكلف العلماء ورثة الأنبياء بالدعوة إليه سبحانه وتعالى من أجل مصلحة العباد ومن أجل منفعتهم , فالدعوة إلى الله قائمة منذ حصل ما حصل بين آدم وعدوه الشيطان وعندما تكفل الشيطان بإغواء بني آدم من استطاع منهم وإضلالكم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
فلا شك أن هناك دعاة إلى الخير وهناك دعاة إلى الباطل من شياطين الجن والإنس حكمة من الله سبحانه وتعالى وابتلاءً وامتحاناً للعباد منذ بدء الخليقة إلى آخر الدنيا والصراع مستمر بين الحق والباطل وبين الدعاة إلى الخير والدعاة إلى الشر, والله سبحانه وتعالى أثنى على الدعاة إلى الله, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت 33, 34] .
فأخبر أن الدعاة إلى الله هم أحسن الناس قولا. وأيضا وصف الدعاة بأنهم يعملون بما يدعون الناس إليه {وَعَمِلَ صَالِحًا} فالداعية يجب أن يكون أول من يمتثل بما يدعو إليه من الطاعة والعبادة حتى يكون قدوة صالحة وحتى تصدق أقواله أعماله. ولهذا يقول نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] .
وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] أي: ينتسب إلى الإسلام وإلى المسلمين وجماعة المسلمين , لا ينتسب إلى أحد سوى المسلمين ؛ ثم يبين الله سبحانه وتعالى أن الداعية إلى الله يتعرض إلى أذى من الناس ولكن أوصاه بأن يدفع بالتي هي أحسن.
فإذا أساء أحد إليه فإنه يقابل الإساءة بالإحسان ؛ لأن هذا يبعث على قبول دعوته {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]
فالداعية حينما يؤذى فإنه لا يلتفت إلى ما يقال وما يفعل ضده. وأيضاً يقابل الإساءة بالإحسان فيحسن إلى من أساء إليه من أجل أن يجتلب الناس إلى الخير ؛ لأنه لا يريد الانتصار لنفسه, وإنما يريد الخير للناس ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتصر لنفسه قط وإنما يغضب وينتصر إذا انتهكت حرمات الله سبحانه وتعالى أما هو في نفسه فهو يؤذى ويقال فيه ويتكلم فيه ولم يكن ينتصر لنفسه, بل يحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
وهذا أيضاً من مقومات الدعوة الإحسان إلى المدعوين وإن أساؤوا. هذا مما يجلبهم إلى الخير ويرغبهم في الخير أما مقابلتهم بالإساءة فإن هذا ينفرهم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] . ثم بين أن هذه الصفة صفة عزيزة, يعني: كون الإنسان يضير ويتحمل ويقابل الإساءة بالإحسان هذه صفة عزيزة فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] .
هذه تحتاج إلى صبر وهو حبس النفس عن الجزع , حبس النفس عن إرادة الانتقام والانتصار. توطين النفس هذا ما يدفع به العدو الإنسي يدفع بالإحسان إليه حتى تجتلب مودته ويتألف على الخير, أما العدو الشيطاني فبين الله ما يدفع به فقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
فالداعية إلى الله يتعرض إلى شياطين الإنس وشياطين الجن أما شياطين الإنس فيقابلهم بالإحسان عن إساءتهم والصفح عن زلتهم وعدم الالتفات إلى ما يقولون.
أما العدو الجني فإنه يدفع بالاستعاذة, هذا طريق الداعية الناجح أنه يستمر في دعوته إلى الله وأنه لا يفت في عضده أو يفل من عزمه أن فلانا أساء إليه أو تكلم فيه ؛ لأنه لا يدعو لنفسه ولا ينتصر لنفسه وإنما يدعو إلى الله سبحانه وتعالى, فالدعوة إلى الله معناها طلب الدخول في دين الله عز وجل الذي خلق الخلق من أجله والذي به سعادتهم وصلاحهم وفلاحهم.
فالداعية إلى الله لا يريد من الناس أن يردوا إليه جزاء على دعوته وإنما يريد الأجر من الله, والداعية إلى الله لا يريد الرفعة والعلو في الأرض وإنما يريد المصلحة للناس ومنفعة الناس ويريد إخراجهم من الظلمات إلى النور.
هذا الذي يريده الداعية الناجح أما الذي بعكس ذلك يريد مظهرا أو يريد ثناء من الناس فهذا لا شك أنه يرجع من أول الطريق عندما يقابل أول عقبة , أما الذي يدعو إلى الله فإنه لا ينثني, بل يستمر في دعوته: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً} [الأنعام: 90] كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون لأممهم: لا نسألكم عليه أجرا .
وإنما نريد النفع لكم والخير فإن قبلتم فلذلك هو المقصود ؛ وإذا لم تقبلوا فنحن قد أبرأنا ذمتنا وأقمنا الحجة عليكم. والدعوة إلى الله تسبق الجهاد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيوشه يوصيهم بأن يدعو الناس قبل مقاتلتهم يبدؤونهم بالدعوة إلى الله , فإن استجابوا فالحمد لله , وإن لم يستجيبوا فعند ذلك يقاتلون ويجاهدون, لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ؛ فالكفار يدعون إلى الدخول في دين الله.. والمسلمون الذين عندهم انحراف في العقيدة يدعون إلى تصحيح العقيدة.. والمسلمون الذين عندهم استقامة على العقيدة ولكن عندهم بعض المعاصي والمخالفات يدعون إلى التوبة وإلى ترك الذنوب والمعاصي.
فالدعوة إلى الله مطلوبة وهي تتنوع بحسب الحاجة فلا بد من الدعوة إلى الله عز وجل وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من العلماء الملحدين إلى أن تقوم الساعة ولا يجوز تركها. يقول الله عز وجل في مدح هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]
ويقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
فوظيفة هذه الأمة هي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, والله سبحانه وتعالى أمر نبيه بالدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى لنبيه , ثم بين له المنهج الذي يسير عليه في دعوته: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]
ثم لا بد أن يكون منهج الدعوة موافقا لما شرعه الله سبحانه وتعالى وليست مناهج الدعوة مفوضة إلى الناس يضعون مناهج لأنفسهم, بل المنهج وضعه الله سبحانه وتعالى ورسمه وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة وكذلك أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ساروا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وأي واحد يحدث منهجا يخالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم منهج الكتاب والسنة فإنه يكون مخطئا في منهجه وبالتالي لا تنجح دعوته, بل تكون دعوته غير صحيحة , إنما ينجح في دعوته إذا ترسم خطى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ منهج الدعوة من الكتاب والسنة.
وفي هاتين الآيتين بيان واضح ؛ لذلك نأخذ منهما أنه يشترط في منهج الدعوة بادئ ذي بدء: أن تكون النية خالصة لله عز وجل, وأن يكون مقصود الداعية ثواب الله سبحانه وتعالى وإقامة دينه وإصلاح المدعوين على الطريق السليم. لا يريد عرضا من أعراض الدنيا ولا علوا في الأرض ولا رياء ولا سمعة ولا طمعا دنيويا, وإنما يريد بذلك وجه الله, ويريد أيضا إخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن الضلال إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة هذا المقصود. وفي قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ} : التنبيه على الإخلاص ؛ يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على هذه الآية {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} : فيه التنبيه على الإخلاص ؛ لأن أكثر الناس إنما يدعو إلى نفسه (
أقول: ولا يدعو إلى جماعة أو حزب أو شخص غير محمد صلى الله عليه وسلم , ولا إلى مذهب غير دين الإسلام , ولا إلى جماعة غير جماعة المسلمين , أهل السنة والجماعة {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
يتبع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد , وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن موضوع الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى موضوع مهم , فالدعوة إلى الله تعني طلب الدخول في دين الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] .
وعبادتهم لله يرجع نفعها إليهم ؛ لأنهم هم المحتاجون إلى عبادة الله سبحانه وتعالى, أما الله جل وعلا فإنه غني عنهم وعن عبادتهم , قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] .
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا عبادي, لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً , لو أن أولكم وآخركم, وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.. يا عبادي , إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها , فمن وجد خيراً فليحمد الله , ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (7)
فالعباد هم الذين بحاجة إلى أن يعبدوا الله من أجل أن ينالوا رضا الله ومغفرته ورحمته , من أجل أن يدخلهم جنته وينقذهم من عذابه, ولذلك خلقهم الله سبحانه وتعالى , ولكن اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يختبرهم وأن يمتحنهم ؛ ليتميز بذلك أهل طاعته من أهل معصيته, والشيطان وحزبه يدعون الناس إلى الخروج عن عبادة الله وإلى معصية الله وإلى اتباع الأهواء والشهوات ؛ ولذلك أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل يدعون الناس إلى الخير , والشياطين تدعوهم إلى الشر {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] , {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] ,
{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [إبراهيم: 10] .
فالله يدعو عباده إلى أن يعبدوه ويتوبوا إليه ويستغفروه وأرسل الرسل يدعون الناس إلى ذلك , وكلف العلماء ورثة الأنبياء بالدعوة إليه سبحانه وتعالى من أجل مصلحة العباد ومن أجل منفعتهم , فالدعوة إلى الله قائمة منذ حصل ما حصل بين آدم وعدوه الشيطان وعندما تكفل الشيطان بإغواء بني آدم من استطاع منهم وإضلالكم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
فلا شك أن هناك دعاة إلى الخير وهناك دعاة إلى الباطل من شياطين الجن والإنس حكمة من الله سبحانه وتعالى وابتلاءً وامتحاناً للعباد منذ بدء الخليقة إلى آخر الدنيا والصراع مستمر بين الحق والباطل وبين الدعاة إلى الخير والدعاة إلى الشر, والله سبحانه وتعالى أثنى على الدعاة إلى الله, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت 33, 34] .
فأخبر أن الدعاة إلى الله هم أحسن الناس قولا. وأيضا وصف الدعاة بأنهم يعملون بما يدعون الناس إليه {وَعَمِلَ صَالِحًا} فالداعية يجب أن يكون أول من يمتثل بما يدعو إليه من الطاعة والعبادة حتى يكون قدوة صالحة وحتى تصدق أقواله أعماله. ولهذا يقول نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] .
وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] أي: ينتسب إلى الإسلام وإلى المسلمين وجماعة المسلمين , لا ينتسب إلى أحد سوى المسلمين ؛ ثم يبين الله سبحانه وتعالى أن الداعية إلى الله يتعرض إلى أذى من الناس ولكن أوصاه بأن يدفع بالتي هي أحسن.
فإذا أساء أحد إليه فإنه يقابل الإساءة بالإحسان ؛ لأن هذا يبعث على قبول دعوته {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]
فالداعية حينما يؤذى فإنه لا يلتفت إلى ما يقال وما يفعل ضده. وأيضاً يقابل الإساءة بالإحسان فيحسن إلى من أساء إليه من أجل أن يجتلب الناس إلى الخير ؛ لأنه لا يريد الانتصار لنفسه, وإنما يريد الخير للناس ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتصر لنفسه قط وإنما يغضب وينتصر إذا انتهكت حرمات الله سبحانه وتعالى أما هو في نفسه فهو يؤذى ويقال فيه ويتكلم فيه ولم يكن ينتصر لنفسه, بل يحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
وهذا أيضاً من مقومات الدعوة الإحسان إلى المدعوين وإن أساؤوا. هذا مما يجلبهم إلى الخير ويرغبهم في الخير أما مقابلتهم بالإساءة فإن هذا ينفرهم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] . ثم بين أن هذه الصفة صفة عزيزة, يعني: كون الإنسان يضير ويتحمل ويقابل الإساءة بالإحسان هذه صفة عزيزة فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] .
هذه تحتاج إلى صبر وهو حبس النفس عن الجزع , حبس النفس عن إرادة الانتقام والانتصار. توطين النفس هذا ما يدفع به العدو الإنسي يدفع بالإحسان إليه حتى تجتلب مودته ويتألف على الخير, أما العدو الشيطاني فبين الله ما يدفع به فقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
فالداعية إلى الله يتعرض إلى شياطين الإنس وشياطين الجن أما شياطين الإنس فيقابلهم بالإحسان عن إساءتهم والصفح عن زلتهم وعدم الالتفات إلى ما يقولون.
أما العدو الجني فإنه يدفع بالاستعاذة, هذا طريق الداعية الناجح أنه يستمر في دعوته إلى الله وأنه لا يفت في عضده أو يفل من عزمه أن فلانا أساء إليه أو تكلم فيه ؛ لأنه لا يدعو لنفسه ولا ينتصر لنفسه وإنما يدعو إلى الله سبحانه وتعالى, فالدعوة إلى الله معناها طلب الدخول في دين الله عز وجل الذي خلق الخلق من أجله والذي به سعادتهم وصلاحهم وفلاحهم.
فالداعية إلى الله لا يريد من الناس أن يردوا إليه جزاء على دعوته وإنما يريد الأجر من الله, والداعية إلى الله لا يريد الرفعة والعلو في الأرض وإنما يريد المصلحة للناس ومنفعة الناس ويريد إخراجهم من الظلمات إلى النور.
هذا الذي يريده الداعية الناجح أما الذي بعكس ذلك يريد مظهرا أو يريد ثناء من الناس فهذا لا شك أنه يرجع من أول الطريق عندما يقابل أول عقبة , أما الذي يدعو إلى الله فإنه لا ينثني, بل يستمر في دعوته: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً} [الأنعام: 90] كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون لأممهم: لا نسألكم عليه أجرا .
وإنما نريد النفع لكم والخير فإن قبلتم فلذلك هو المقصود ؛ وإذا لم تقبلوا فنحن قد أبرأنا ذمتنا وأقمنا الحجة عليكم. والدعوة إلى الله تسبق الجهاد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيوشه يوصيهم بأن يدعو الناس قبل مقاتلتهم يبدؤونهم بالدعوة إلى الله , فإن استجابوا فالحمد لله , وإن لم يستجيبوا فعند ذلك يقاتلون ويجاهدون, لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ؛ فالكفار يدعون إلى الدخول في دين الله.. والمسلمون الذين عندهم انحراف في العقيدة يدعون إلى تصحيح العقيدة.. والمسلمون الذين عندهم استقامة على العقيدة ولكن عندهم بعض المعاصي والمخالفات يدعون إلى التوبة وإلى ترك الذنوب والمعاصي.
فالدعوة إلى الله مطلوبة وهي تتنوع بحسب الحاجة فلا بد من الدعوة إلى الله عز وجل وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من العلماء الملحدين إلى أن تقوم الساعة ولا يجوز تركها. يقول الله عز وجل في مدح هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]
ويقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
فوظيفة هذه الأمة هي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, والله سبحانه وتعالى أمر نبيه بالدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى لنبيه , ثم بين له المنهج الذي يسير عليه في دعوته: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]
ثم لا بد أن يكون منهج الدعوة موافقا لما شرعه الله سبحانه وتعالى وليست مناهج الدعوة مفوضة إلى الناس يضعون مناهج لأنفسهم, بل المنهج وضعه الله سبحانه وتعالى ورسمه وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة وكذلك أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ساروا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وأي واحد يحدث منهجا يخالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم منهج الكتاب والسنة فإنه يكون مخطئا في منهجه وبالتالي لا تنجح دعوته, بل تكون دعوته غير صحيحة , إنما ينجح في دعوته إذا ترسم خطى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ منهج الدعوة من الكتاب والسنة.
وفي هاتين الآيتين بيان واضح ؛ لذلك نأخذ منهما أنه يشترط في منهج الدعوة بادئ ذي بدء: أن تكون النية خالصة لله عز وجل, وأن يكون مقصود الداعية ثواب الله سبحانه وتعالى وإقامة دينه وإصلاح المدعوين على الطريق السليم. لا يريد عرضا من أعراض الدنيا ولا علوا في الأرض ولا رياء ولا سمعة ولا طمعا دنيويا, وإنما يريد بذلك وجه الله, ويريد أيضا إخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن الضلال إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة هذا المقصود. وفي قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ} : التنبيه على الإخلاص ؛ يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على هذه الآية {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} : فيه التنبيه على الإخلاص ؛ لأن أكثر الناس إنما يدعو إلى نفسه (
أقول: ولا يدعو إلى جماعة أو حزب أو شخص غير محمد صلى الله عليه وسلم , ولا إلى مذهب غير دين الإسلام , ولا إلى جماعة غير جماعة المسلمين , أهل السنة والجماعة {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
يتبع