الكعبة المشرفة دراسة تحليلية للخصائص التصميمية
الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس مصداقا لقوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين"[1]، وقد اختار الله سبحانه وتعالى هذا البيت العتيق بمكة المكرمة ليكون القبلة التى يتجه إليها المسلمون في صلاتهم، خمس مرات على الأقل في اليوم والليلة.
لقد قررت كتب الفقه الإسلامي أن التوجه للقبلة يعتبر أحد شروط صحة الصلاة، لذلك فلقد أكدت العديد من الآيات القرآنية ضرورة التوجه للمسجد الحرام حيث الكعبة المشرفة عند الصلاة، يقول سبحانه وتعالى: "وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره"[2]، أي شطر المسجد الحرام.
ولا تقتصر وظيفة الكعبة المشرفة على كونها القبلة التي يتم التوجه إليها في الصلاة، بل إن الله جعل الطواف حولها هو أحد مناسك الحج والعمرة، كما جعل الطواف حول الكعبة من خصوصيات تحية المسجد الحرام بدلا من صلاة ركعتي تحية المسجد، كما يحدث في باقي مساجد الأرض، وقد ورد الأمر بالطواف حول الكعبة المشرفة في قوله تعالى: "وليطوفوا بالبيت العتيق"[3].
وهذا يعنى أن أهم وظيفتين للكعبة المشرفة هما: أن تكون قبلة يتم التوجه إليها في الصلاة، كما أنها أيضا مبنى يتم الطواف حوله أثناء أداء مناسك الحج والعمرة وبديلا لركعتي تحية المسجد.
إن الدراسات التحليلية التي أجريت على الكعبة المشرفة تعتبر قليلة نسبيا، ومن أهمها الدراسة التي قام بها الباحث "نجيب جدال"[4]، لذلك فإن هذا البحث يهدف إلى دراسة الخصائص التصميمية للكعبة المشرفة ومدى توافقها مع وظيفتها، باعتبارها قبلة يتم التوجه إليها في الصلاة من أي مكان في الأرض.
وعادة ما تشتمل دراسة الخصائص التصميمية لأي مبنى على ثلاثة أشياء أساسية:
دراسة الموقع الجغرافي للمبنى، والوصف الهندسي ويشمل دراسة الشكل والنسب الهندسية، و دراسة أسلوب توجيه المبنى.
لذلك فإن البحث سيقوم بدراسة هذه الخصائص التصميمية، من أجل معرفة مدى توافق هذه الخصائص مع الناحية الوظيفية للكعبة المشرفة.
أولا: مميزات الموقع الجغرافي للكعبة المشرفة:
تقع الكعبة المشرفة في مكة المكرمة والتي يتحدد موقعها الجغرافي بخط عرض 21 درجة و25 دقيقة شمالا، وخط طول 39 درجة و49 دقيقة شرقا[5].
لقد تمت بعض الدراسات العلمية التي توضح أسباب اختيار الموقع الجغرافي لمكة المكرمة حيث توجد الكعبة المشرفة، باعتبارها القبلة التي يتجه إليها المسلمون في صلاتهم أو يحجون إليها لأداء مناسك الحج والعمرة، وقد توصلت هذه الدراسات لما يلي:
1- مكة المكرمة مركز اليابسة للعالمين القديم والجديد:
في محاولة جادة لتحديد الاتجاهات الدقيقة إلى مكة المكرمة من المدن الرئيسية في العالم باستخدام الحاسوب الكمبيوتر، توصل الدكتور حسين كمال الدين إلى تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات، أي أن اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة تقريبا حول مكة المكرمة توزيعا منتظما، وأن هذه المدينة المقدسة تعتبر مركزا لليابسة[6]، شكل (1)، وهذا التوسط ينطبق على كل من العالم القديم والعالم الجديد.
شكل 1: رسم القارات السبع للعالم يوضح أن مكة المكرمة هي مركز اليابسة[7].
أما الدكتور مسلم شلتوت فقد أكد الدراسة السابقة عندما أعد ورقة بحثية أثبت فيها أيضا،أن مكة المكرمة تقع في مركز اليابسة للعالمين القديم و الحديث، وذلك باستخدام برنامج للحاسب الآلي، وفيما يلي أهم نتائج هذه الدراسة[8]:
أ- بالنسبة لتوسط مكة المكرمة ليابسة العالم القديم:
تم اختيار تسع مدن وجزر لتكون هي حدود العالم القديم، وتم تحديد موقعها وبعدها عن مكة المكرمة، وقد وجد أن المسافة القوسية The arch distance بين هذه المدن والجزر وبين مكة المكرمة تقريبا 8039 كم في المتوسط، مما يعنى أن مكة المكرمة تقع في مركز دائرة يمر محيطها بالثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا التي كانت تكوّن وتمثل العالم القديم قبل اكتشاف الأمريكتين.
ب- بالنسبة لتوسط مكة المكرمة ليابسة العالم الجديد:
تم حساب المسافة بين مكة المكرمة والمدن الآتية:
1- مدينة ويلنجتون تقع في نيوزيلند بشرق قارة استراليا: وجد أن المسافة بينها وبين مكة المكرمة 13040 كم.
2- كورن هورن أبعد نقطة في أمريكا الجنوبية: وجد أن المسافة بينها وبين مكة المكرمة 13120 كم.
3- شمال ألاسكا أبعد نقطة في شمال أمريكا: وجد أن المسافة بينها وبين مكة المكرمة 13600 كم.
وعلى ذلك فإن المسافة المتوسطة بين أبعد نقاط العالم الجديد وبين مكة المكرمة هي تقريبا 13253 كم، مما يعنى أيضا أن مكة المكرمة تقع في مركز دائرة تمر بحدود قارات العالم الجديد، وهذه الدائرة تمر أيضا بالحدود الشرقية والحدود الغربية للقطب الجنوبي.
وهنا يظهر لنا أن اختيار موقع مكة المكرمة لتكون فيها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين، هو اختيار إلهي فيه حكمة كبرى لم تكن لتعرف إلا بعد ظهور الحقائق والاكتشافات العلمية الحديثة، فالمسلمون عندما يتجهون في صلاتهم إلى مكة المكرمة فهم يتجهون إلى موقع يعتبر بمثابة مركز اليابسة، كما أنه لا يخفى دلالة توسط موقع مكة المكرمة على تسهيل الحج والعمرة للمسلمين من مختلف بقاع الأرض، فموقعها متوسط بالنسبة لكافة القارات فهي لا تقع في أقصى الشرق أو الغرب، أو في أقصى الشمال أو الجنوب.
وقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي قوله[9]: "أول ما خلق الله في الأرض مكان الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، فهي سرة الأرض ووسط الدنيا، وأم القرى أولها الكعبة، وبكة حول مكة، وحول مكة الحرام، وحول الحرام الدنيا"، وهو ما يوضح أيضا أن علماء المسلمين القدامى قد فهموا ووعوا حقيقة أن مكة المكرمة هي وسط الدنيا، كما حدد البعض منهم اتجاهات وزوايا القبلة بالنسبة للبلاد الإسلامية وعلاقتها بمكة المكرمة.
إن موقع مكة المكرمة الفريد من نوعه أدى إلى أن يطالب أحد الباحثين الغربيين، واسمه "أرنولد كيسرلنج" Arnold Keysrling، إلى أن يكون خط طول مكة المكرمة 39 درجة و49 دقيقة شرقا هو خط الطول الأساسي[10]، بدلا من خط طول جرينتش بانجلترا والذي تم فرضه على العالم سنة 1882م، وقت أن كانت الإمبراطورية البريطانية هي أكبر قوة موجودة في العالم.
2- إشارة الظلال إلى مكة المكرمة [11]:
لقد أدى وقوع مكة المكرمة في المنطقة المدارية الاستوائية، أي في المنطقة التي تقع بين مدارى السرطان والجدي، وتحديدا عند خط عرض 21 درجة و25 دقيقة شمالا وخط طول حوالي 39.5 درجة شرق جرينتش، إلى ارتباط مبانيها وبالتالي الكعبة المشرفة بظاهرة فلكية هامة، وهى تعامد الشمس عليها مرتين كل عام وقت صلاة الظهر (الزوال)(12)، وذلك يومي 29 مايو و16 يولية.
ويمكن الاستفادة من هذه الظاهرة الطبيعية لتحديد أو تصحيح اتجاه القبلة من كل البلاد والأماكن بنصف الكرة الأرضية المضاءة بالشمس في هذين اليومين، وتحديدا لحظة الزوال الظهر الشرعي في الساعة 12 و 18 دقيقة حسب التوقيت المحلى لمدينة مكة المكرمة يوم 29 مايو، وكذلك في الساعة 12 و27 دقيقة في يوم 16 يوليو من كل عام، حيث تكون الشمس عمودية تماما على مكة المكرمة وينعدم ظل الشاخص فيها آنذاك.
وفى هذين التوقيتين بالضبط يمكن لكل بلد مقابلة التوقيت المحلى لها معهما، وعن طريق مراقبة ظل شاخص موضوع عموديا على الأرض، فان اتجاه القبلة يكون في الجهة المعاكسة لظل ذلك الشاخص آنذاك، حيث يشير امتداد ظل الشاخص إلى موقع القبلة التي تتعامد عليها الشمس في هذين الوقتين كدليل ومرشد عليها، شكل 2.
شكل (2): في لحظة تعامد الشمس على مدينة مكة المكرمة يمكن تحديد اتجاه القبلة في البلاد الأخرى، عن طريق اتجاه الظل الممدود، حيث يكون اتجاه القبلة معاكسا لاتجاه الظل[13].
لقد أورد الفلكي المسلم "نصير الدين الطوسي" المولود سنة 597 هجرية في كتابه "التذكرة في علم الهيئة"، أنه يمكن معرفة "سمت القبلة" كما يلي[14]: "ولمعرفة سمت القبلة طرق كثيرة لا يليق إيرادها هاهنا، فلنقتصر على وجه سهل وهو أن الشمس تكون مارة بسمت رأس مكة عند كونها في الدرجة الثامنة من الجوزاء، والثالثة والعشرين من السرطان وقت انتصاف النهار هناك، والفضل بين نصف نهارها ونصف نهار سائر البلدان يكون بقدر التفاوت بين الطولين، فليؤخذ التفاوت ويؤخذ لكل خمسة عشر جزءا ساعة ولكل جزء أربع دقائق، فيكون ما اجتمع ساعات البعد عن نصف النهار، وليرصد في ذلك اليوم ذلك الوقت قبل نصف النهار إن كانت مكة شرقية أو بعده إن كانت مكة غربية، فسمت الظل ساعة إذ يكون سمت القبلة".
إن الفقرة السابقة تؤكد أن المسلمين الأوائل قد توصلوا إلى طريقة تحديد اتجاه القبلة نتيجة تعامد الشمس على مكة المكرمة، مرتين في العام وقت منتصف النهار تماما، على التفصيل الذي أوضحناه، ويكون اتجاه الظل ساعة إذ هو اتجاه القبلة حيث الكعبة المشرفة.
إن أسلوب تحديد اتجاه القبلة عن طريق الظلال، يعتبر أدق طريقة معروفة لتحديد اتجاه القبلة من أي مكان أو موقع بالكرة الأرضية، وهو ما يوضح أن اختيار موقع الكعبة المشرفة في مدينة مكة المكرمة، يتناسب تماما مع وظيفتها كقبلة يتم التوجه إليها في الصلاة، لأن التوجه للقبلة يستلزم التعرف إلى طرق علمية دقيقة تساعد على التوجه إليها من أي موقع أو مدينة بالكرة الأرضية.
ثانيا: دراسة تحليلية لشكل الكعبة المشرفة ونسبها الهندسية:
1- دراسة الشكل الهندسي:
أورد عالم الآثار الإنجليزي "كريزول" في كتابه الشهير "الآثار الإسلامية الأولى ما يلي[15]: " في حياة محمد صلى الله عليه وسلم كان الحرم في مكة مؤلفا من بناء صغير مستطيل الشكل لا سقف له الكعبة، له أربعة جدران أعلى من ارتفاع الإنسان بقليل حسب رواية ابن هشام[16]، أو حوالي 9 أذرع حوالي 4.5م حسب رواية الأزرقي[17]، مبنية من الحجارة العادية دون ملاط مونة، وكان الحرم مستطيل الشكل يقصد الكعبة أطوال جوانبه- حسب رواية الأزرقي- 32 ذراعا شمال- شرق، و22 ذراعا شمال- غرب، و31 ذراعا جنوب- غرب، و20 ذراعا جنوب- شرق..، هذا الحرم الصغير المعروف بالكعبة يقوم في أسفل الوادي الذي تحيط به منازل مكة الملتصقة به.."، شكل 3.
إن الوصف السابق يعنى أن أطوال أضلاع الكعبة الأصلية هي على التوالي كما يلي[18]:
· الضلع الشمالي الشرقي 32 ذراعا.
· الضلع الشمالي الغربي 22 ذراعا.
· الضلع الجنوبي الغربي 31 ذراعا.
· الضلع الجنوبي الشرقي 20 ذراعا.
شكل (3- أ) : تصور لشكل الكعبة كما جاء وصفها في كتب التراث الاسلامى من رسم الباحث الكويتي محمد سليمان النفيسى[19]، ومقاساتها تبعا للأزرقى هي: 20×32×22×31 ذراعا.
شكل (3- ب): مسقط أفقي للكعبة المشرفة كما رفع قواعدها سيدنا إبراهيم (من رسم الباحث).
وهو ما يعني أنه لا يوجد ضلع من أضلاع الكعبة الأصلية يساوى أي من الأضلاع الأخرى، كما أنه لا يوجد ضلع يوازى الضلع المقابل، وهذه هي سمات الأشكال ذات الأربعة أضلاع التى يطلق عليها من ناحية توصيف الشكل الهندسي بالأشكال "المنحرفة" أو "مختلفة الأضلاع"[20]، وهى من الأشكال نادرة الاستعمال في المساقط الأفقية بصفة عامة، مقارنة بالأشكال الهندسية الأخرى كالمربع أو المستطيل أو شبه المنحرف وغيرها.
إن مقاسات الكعبة الأصلية كما وردت في كتاب الأزرقي "أخبار مكة"، كما رفع قواعدها سيدنا إبراهيم، تختلف عن مقاسات الكعبة الحالية والتي تنقص عدة أذرع من جهة حجر إسماعيل منذ أن جددت قريش بناءها[21]، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث النبوية، ففي صحيح البخاري-رحمه الله تعالى- قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه"[22].
إن مقاسات الكعبة حاليا منذ أن جدد بناءها في عهد قريش كما يلي[23]، شكل (4):
· الضلع الشمالي الشرقي 11.68 مترا.
· الضلع الشمالي الغربي 9.90 مترا.
· الضلع الجنوبي الغربى 12.04 مترا.
· الضلع الجنوبي الشرقي 10.18 مترا.
شكل(4): المسقط الأفقي للكعبة المشرفة منذ عهد قريش وإلى وقتنا الحالي[24].
إن الشكل الهندسي للكعبة منذ أن رفع جدرانها سيدنا إبراهيم إلى الآن لم يتغير، بالرغم من حدوث نقص من طولها من جهة حجر إسماعيل حين جددت قريش بناءها، فالشكل الهندسي للكعبة هو الشكل المنحرف أو مختلف الأضلاع، وهو شكل نادر الاستعمال في المساقط الأفقية لأنه لا يوجد فيه أضلاع متساوية في الطول أو متوازية على الإطلاق.
لقد ورد في العديد من الدراسات والمراجع خاصة غير العربية[25]، أن سبب تسمية الكعبة بهذا المسمى أنها مكعبة الشكل، ولكن مقاسات الكعبة توضح غير ذلك كما بينا، وهذا يعنى أن سبب التسمية لا يتفق مع الشكل الهندسي.
إن سبب هذه التسمية يمكن أن يكون راجعا لسبب آخر وهو بروز الكعبة، فالكعب في اللغة هو العظم الناتئ عند ملتقى الساق والقدم[26]، ويقال في اللغة: "كعبت الفتاة أي نهد ثديها فهي كاعب[27]، ومنها قوله تعالى في وصف الحور العين: "وكواعب أترابا"[28]، فمن المعنى اللغوي لكلمة "الكعبة" نرجح أن سبب التسمية راجع إلى بروزها، لا لكونها مكعبة الشكل لأن هذا لا يتفق مع شكلها الهندسي كما أوضحنا.
2- دراسة النسب الهندسية للكعبة المشرفة:
بناء على التحليل الهندسي للمقاسات الأصلية لمبنى الكعبة المشرفة، شكل (5)، كما بناها سيدنا إبراهيم عليه السلام فقد تم التوصل لما يلي:
1- النسبة المتوسطة ما بين عرض مبنى الكعبة إلى طولها هي 2: 3، وهى نسبة هندسية دقيقة ومحددة.
2- النسبة المتوسطة ما بين عرض مبنى الكعبة مابين حائطها الجنوبي (بين الركنين الأسود واليماني)، وطولها حتى نهاية حجر إسماعيل هي 1: 2، وهى أيضا نسبة هندسية دقيقة.
3- النسبة الحقيقية بين حائط الكعبة بين الركنين الأسود واليماني إلى حائط الكعبة مابين الركنين الأسود والعراقي هي 1: 1.60 وهى تعرف باسم النسبة الذهبية (فاى)، وهى تعتبر من وجهة النظر الهندسية أفضل نسبة مريحة للعين البشرية ولم تعرف تحديدا إلا بدءا من الحضارة الإغريقية، على يد الرياضي الأغريقى "فيثاغورس"، حيث وجد فيثاغورس واليونانيون القدماء أن هذه النسبة مريحة بصريا، وتشكل أحد أهم معايير الجمال في الطبيعة، لذا فقد اعتمدوا هذا المستطيل الذهبي في عمائرهم[29].