الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
لقد حفل القرآن في كثير من آياته بذكر التقوى والأمر بها وبيان ثمراتها و الطريق الموصل إليها.
ولعظم شأن التقوى في الإسلام كان النبي يفتتح خطبه ببعض الآيات التي فيها الأمر بالتقوى.
وهذا يدل - بلا شك - على أهمية التقوى في حياة المسلم.
ومن الآيات التي أمرت بالتقوى ورغبت فيها:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ) (الحشر: 1.
بل إن الله سبحانه جعل التقوى شرطا في حصول الإيمان فقال جل وعلا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 57).
والتقوى هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) (النساء: 13 ).
ولأهمية التقوى أمر الله تعالى نبيه بها فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) (الأحزاب: 1)
وجعل الله التقوى من خير ما يتزود به الإنسان فقال سبحانه: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)
وذم سبحانه المتكبرين الذين لا يقبلون النصح بالتحلي بالتقوى، فقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة:206)
وجعل سبحانه التفاضل بين الناس بميزان التقوى فقال جل وعلا: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات: 13) حقيقة التقوى
قال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه، من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه .
وقال القشيري: فالتقوى جماع الخيرات. وحقيقة الاتقاء: التحرر بطاعة الله من عقوبته، وأصل التقوى: اتقاء الشرك، ثم بعد ذلك اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعد ذلك اتقاء الشبهات، ثم بعد ذلك ترك الفضلات .
وقال ابن مسعود في معنى قوله تعالى: (ا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (آل عمران:102): أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال سهل بن عبدالله: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كلها.
وقال الروذباري: التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله.
وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: 1- حسن التوكل فيما لم ينل.
2- وحسن الرضا فيما قد نال.
3- وحسن الصبر على ما قد مضى.
فالتقوى ما وقر في القلب وصدقه العمل.
علاقة العلم بالتقوى
والتقوى لا تقوم إلا على ساق العلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون تقيا، لأنه لا يعلم ما يتقى وما لا يتقى، وهذا غاية التخليط.
قال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقى .
مراتب التقوى
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: التقوى ثلاث مراتب: إحداها: حماية القلب والجوارح من الآثام والمحرمات. الثانية: حميتهما من المكروهات. الثالثة: الحماية من الفضول وما لا يعني. فالأولى: تعطي العبد حياته، والثانية: تفيد صحته وقوته، والثالثة: تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
الطريق إلى التقوى ( وسائلها )
يمكن تقسيم التقوى إلى قسمين: واجبة ومستحبة.
أما الواجبة: فلا يمكن أن تتحقق إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات،
وأعظم الواجبات: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره،
وأعظم المحرمات : الشرك بالله والكفر بجميع أنواعه. قال تعالىالم~ (1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة 1-4)
قال معاذ بن جبل: ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة.
وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير.
وأما التقوى المستحبة: فهي تكون بفعل المندوبات وترك المكروهات،
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله العبد،حتى يتقيه من مثقال ذرة، فلا تحقــرن صغيـــــرة إن الجبـال مـن الحصـى ومعظم النار من مستصغر الشرر
ومن الأسباب الباعثة على التقوى ما يلي:
1- كثرة العبادة: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)
2- أداء العبادة على الوجه الأكمل: لقوله تعالى: ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (البقرة:203)
3- الجدية في التعامل مع شرع الله تعالى: لقوله تعالى: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 63)
4- تطبيق الحدود الشرعية: بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179)
5- إقامة شعائر الإسلام والتحلي بمكارم الأخلاق: لقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)
6- الصيام: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
7- تعظيم شعائر الله: لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)
8- العدل: لقوله تعالى: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة:
9- العفو: لقوله تعالى: ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة: 237)
10- تعظيم الرسول وتوقيره: لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: 3)،
وذلك يشمل الرسول حيا وميتا، ويكون عدم رفع الأصوات عليه ميتا باحترام سنته، وانتهاج طرقته، وعدم مجاوزة هديه إلى غيره من زبالات الأذهان ونخالات الأفكار والمذاهب والآراء.
فجميع الطاعات من أسباب حصول التقوى، وجميع المعاصي من معوقات حصول التقوى، كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله تخاف عقاب الله.