لذة المناجاة وحلاوة العبادة
الدكتور / علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
عن أي شيء يبحث الإنسان في هذه الحياة ? أليس الناس يبحثون عن السعادة العظمى ، والثروة الكبرى ؟ أليسوا يجدون في إثر الطمأنينة المستقرة والراحة المستمرة ؟ أليسوا يرغبون في أن يدخل السرور إلى قلوبهم وأن تشيع البهجة في نفوسهم وأن تعلو البسمة شفاههم وأن تترقب ألسنتهم بجميل القول ، وأن تستقبل آذانهم حسن الكلام؟ أليس كثير من الناس يبحثون عن اللذة والسعادة ؟
إن طريقها في هذا الدين العظيم وكثيرون هم الضايعون في بحثهم، وآخرون كثيرون أيضاً هم الواهبون فيما توصلوا إليه من نتائج، يلتمسون بها السعادة، ويقصدون بها حصول اللذة ، وأولئك في حيرتهم يعمهون ، والآخرون في أوهامهم يتخبطون، وأنت أيها المؤمن الصادق .. أيها المسلم المخلص .. أيها العبد الخاضع لله ، صاحب اللسان الذاكر لله - عز وجل- والدمعة الخاشعة لله - سبحانه وتعالى - والجبهة الخاضعة لعظمة الله - جل وعلا - أنت وحدك إن فهمت هذا الإيمان ، تفاعلت معه، وإن أتيت بموجباته ، فأنت السعيد الفريد في هذه الحياة الدنيا، وأنت الناجي الفائز بإذن الله -عز وجل- في الحياة الأخرى.
اللذة التي يبحث عنها الناس
أي شيئ تطلب ؟ وعن أي شيء تبحث ؟ والأمر قد يسره الله - سبحانه وتعالى- وبسطه بين يديك ، وجعله طريق واحدة ، تبدأ من أول لحظة تعي فيها، وتدرك التكليف ، وإذا به طريق يمتد من هذه الأرض الصغيرة ،إلى السموات العلى إلى رضوان الله - سبحانه وتعالى - إن اللذة والسعادة في الإيمان .. في السعي لنيل رضى الرحمن.. في عبادة الملك المنان - سبحانه وتعالى -
فلننظر إلى هذه اللذة التي ذاقها المؤمنون .. التي عرفها وعلمها للناس المرسلون ، والتي اقتطف ثمارها وتمتع بأذواقها عباد الله الصالحون ، والتي حرمها كثيراً من المسلمين في هذه الأوقات ، لأنهم لم يأخذوا سبيلها، ولم ينهجوا طريقها، ولم يؤدوا واجباتها.
اللذة الحقيقية
إن أعظم هذه المنن والنعم أن تكون الحياة كلها لله - سبحانه وتعالى - { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }، { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }.
ما أعظم أن يكون الضعيف مرتبطاً بالله القوي ! ما أعظم أن يكون العبد العاجز مرتبطاً بالله - سبحانه وتعالى - الذي لا منتهى لكماله ! ما أعظم أن يخضع الفقير للمعدم للغني القاهر - سبحانه وتعالى - ! إنه حينئذً يتحول إلى صورةً أخرى ، وإلى معنىً آخر في هذه الحياة ، إنه يرتبط حينئذٍ بالسماء ، يرتبط بنور الوحي ، يرتبط بنفخة الله - عز وجل - التي نفخها في خلقة آدم أول ما خلق .. عندما جعل خلقه قبضة من طين، ونفخةً من روح ، عندما أراد الله - عز وجل - أن يجعل لهذه الروح غذاءها المرتبط بخالقها - سبحانه وتعالى - .
الإيمان الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فيه اللذة والحلاوة والمتعة والسعادة .. الذي فيه طمأنينة القلب ، وسكينة النفس ، فها هو - عليه الصلاة والسلام- يعبر تعبيراً صريحاً واضحا ،ً قوي المعنى: ( ذاق طعم الإيمان ، من رضي بالله ربًاً، وبالإسلام دينا،ً وبمحمدً - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً ) ما أعظم هذا الاستقرار والسكينة والطمأنينة ، عندما ترتبط بالله - عز وجل- خضوعاً لإله واحد، وغيرك من الناس يخضع لقوى الأرض ، يبتغي لديها خيراً، وآخرون يخضعون لقوى البشر يخشون منها ضراً، وأنت حر طليق لا عبودية لك إلا لله - سبحانه وتعالى- ، والناس أيضاً يتخبطون ويتحيرون ويلتمسون طريقاً هنا وهناك ، ومنهجا من شرق وغرب ، وأنت عندك منهج الإسلام ، الصراط المستقيم الذي جمع الله - سبحانه وتعالى - فيه الخير كله، ونفى عنه القصور والضر كله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }، والناس يبحثون عن قدوات يلتمسونها هنا وهناك ، وقدوتك العظمى وأسوتك المثلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق أجمعين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }. ما أعظم هذه الوحدة التي توحد وجهتك وقصدك لله - سبحانه وتعالى - خضوعاً وذلة ، وعلى الإسلام منهج تحاكم وشريعة حياة ، ومع الرسول- صلى الله عليه وسلم- قدوة تحتذى ، وأسوة تتبع . ما أعظم هذه الطمأنينة التي تنسكب في القلب ! { الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، ما أعظمها من نعمة ! وما أعظمها من لذة ! لو أن الإنسان تفاعل بها انفعال صادقاً.. لو أنه تشربها تشرباً كاملاً ، لو أنه عاشها وبقي معها، في مداومة مستمرة ، وفي حياة متواصلة ، إذاً لتحقق له أيضاً ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المفارقة في اللذة التي إذا جناها العبد حقيقةً، وإذا اقتطفها ثانيةً ؛ فإنه لا يرضى عنها بديلاً ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار )، كل هذه المشاعر من المحبة والميل العاطفي ،إنما رابطها الإيمان الذي يغذيها وينميها، ويجعلها متعةً ولذة في هذه الحياة ، ولذا قال سلف الأمة - عندما تذوقوا هذه الحلاوة -: " والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ". ذاقوا طعمها .. ذاقوا صلة بالله - سبحانه وتعالى - عظيمة، التي متى تعلق قلبك بها لن يتعلق بشيء سواه ، وبدأ حينئذً كل أمرك من طموح، ومن شوق ، ومن آمال ، ومن غايات في هذه الحياة ، يرتبط بهذا الإيمان كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المنن الإيمانية ، والمنح الربانية ، التي يسوقها - سبحانه وتعالى - لك أنت - أيها العبد المؤمن المسلم- من بين هذه البشرية الحائرة الضالة المتخبطة ، البعيدة عن منهج الله ، الجاحدة لرب الأرباب ، وملك الملوك - سبحانه وتعالى- .
تأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلان فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ) .
فإذا أنت ترى القلوب تهفو إليك ، وترى الأيدي تعانقك ، وترى الشفاه تبتسم لك ، وترى بريق العيون ينظر لك نظرة المحبة، ولم تسدي إليهم معروفا ،ً ولم تقدم إليهم مساعدة، وإنما هي لغة التحاور الإيماني وإنما هي مشاعر القلوب التي ترسل بإذن الله - عز وجل - تلك الروابط ، التي تسعد بها البشرية ، والتي تطمئن بها أسباب الحياة بين البشر .
حتى تدرك مدى ما ينعكس من أثار الإيمان في طمأنينتك وعلاقتك بهذا الكون وعلاقتك بهذه الحياة تأمل قول النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما قال : ( من ابتغى رضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن ابتغى سخط الله برضى الناس ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، يبقى شقياً محروماً ، منكوداً مطرداً ، وإن ملك الأموال كلها ، وإن كان بين يديه كل شيء من ملذات الحياة ، لكن في صدره ضيق ، وفوق قلبه أكوام من الهموم ، وفوق عينيه غم يتجسد في مراء وجهه ، كأن عليه قطع من سواد مظلم ، وكأن على وجوههم قتر وذلة . نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة