تتمة
ثالثًا: آثار نقض العهد والميثاق
كما أن الوفاء بالعهد والميثاق له آثاره الكبيرة، فإن نقض العهد والميثاق يترك آثارًا كبرى تؤدي بصاحبها إلى الخسران والبوار.
وإذا كانت الآثار الإيجابية حافزة وداعية المسلم للالتزام والوفاء، فإن الآثار السلبية أشدّ إنذارًا وتحذيرًا وتخويفًا، والعقوبة أكثر تأثيرًا في النفس البشرية من الإغراء وحسن الجزاء.
ومن هنا ندرك بعض الحكمة في أن الآيات التي جاءت لبيان الآثار السلبية أكثر من الآيات التي وردت مبينة الآثار الإيجابية للوفاء بالعهد والميثاق.
ولقد تتبعت آيات العهد والميثاق آية آية، ووقفت على تلك الآثار التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الإخلال بالعهد وجعلها جزاء لمن نقض الميثاق.
وهذه الآثار منها ما يكون في الدنيا، وأعظمها ما سيكون في الآخرة. وقمت بحصر تلك الآثار، وأدخلت بعضها ببعض حسب تشابهها، وسأذكر كل أثر بأدلته ملتزمًا الإيجاز والاقتصار على ما نص عليه في القرآن الكريم، حسب المنهج الذي سلكته في الآثار الإيجابية.
1- الكفر ونفي الإيمان:
قرن الله سبحانه وتعالى بين الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شك بكفر من نقض عهده مع الله وأخلّ بميثاقه الذي أخذه عليه في ظهر آدم وعلى ألسنة أنبيائه ورسله، ومن هنا جاء نفي الإيمان عن الناقضين لعهودهم، زجرًا لهم وتهديدًا وإنذارًا.
ففي سورة البقرة يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكرًا لهم بالميثاق الذي أخذه عليهم ومبينًا الحال التي آلوا إليها: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93)
وفي السورة نفسها ينفي الإيمان عن النابذين لعهودهم: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100) ( ).
وفي سورة النساء يعرض القضية بأسلوب آخر تحمل المعنى نفسه: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:155) ( )(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) (النساء:156) .
وتأتي الآيات في سورة التوبة قوية شديدة على أولئك الكفار، آمرة المؤمنين بأمر حاسم لا تردد فيه:
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة:12) .
وتستمر الآيات مبينة كفر من كذّب بعهد الله وميثاقه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، .وبأسلوب الاستفهام تأتي آية سورة الحديد: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد: .
وهكذا تبدو معالم نقض العهد والميثاق مخيفة، وآثاره مدمرة، فأي حياة بلا إيمان، وما قيمة الإنسان وقد خرج عن الهدف الذي خلق من أجله، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان: الآية44) .
2- الفسق:
الفسق هو الخروج عن طاعة الله ويطلق ويراد به ما دون الكفر كما في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: الآية121) .
ويأتي بمعنى الكفر كما في قوله تعالى: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: من الآية110) وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً) (السجدة: الآية18) ( ).
والآيات التي جاءت مبينة فسق من نقض العهد والميثاق وردت بمعنى الكفر، وذلك تأكيد لما سبق من بيان كفر من تخلى عن العهد والميثاق ( ) ففي أول آية جاء فيها لفظ العهد والميثاق حكم الله على الناقضين بالفسق فقال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآيتين 26،27) .
وأكد هذا المعنى في سورة آل عمران عندما ذكر ما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، حيث طلب من الأُمم الإقرار والتصديق ثم قال: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82) .
وفي سورة الأعراف: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (الأعـراف:102) .وبهذا تؤكد لنا هذه الآيات شناعة فعل الناقضين لعهودهم، وسوء جريرتهم، لخروجهم عن أمر الله وميثاقه.
3- الخسران:
الخسران عاقبة من نكث بعهده ونقض ميثاقه، تقرر هذا آية البقرة التي سبق ذكرها، وهي أول آية في القرآن ( ) يرد فيها العهد والميثاق: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27) والخسران هنا بمعنى الكفر ( ) يبين ذلك قوله بعدها مباشرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية28) الآية.
وفي آية أخرى وفي السورة نفسها يأتي ما يؤكد أن الخسران مآل من تولّى عن أخذ الميثاق كما أمر به الله، ولكن بأسلوب يهز النفس ويوقضها من سباتها، مبينًا نعمة الله على بعض عباده حيث رحمهم من أن يكونوا من الخاسرين (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:63، 64).
والخسران أثر رهيب، إذا تأمله المسلم ازداد خوفًا ووجلا، فإذا كانت خسارة الدنيا يفرّ منها الإنسان فرقًا ورهبًا، وتترك آثارها على حياته ومستقبله، فكيف بخسران الدنيا والآخرة؟ (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)( الآية15الزمر: من
4اللعن وقسوة القلوب والطبع عليها:
لما نقض بنوا إسرائيل عهودهم كانت العاقبة شديدة والأثر أليم، فقد لعنهم الله وجعل قلوبهم قاسية، وتبعًا لذلك ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (الآية13 من سورة المائدة) .
وفي سورة النساء يبين سبحانه أنه طبع على قلوبهم جزاء لهم على كفرهم ونقضهم الميثاق (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) (الآية155 من سورة النساء ).
وفي آية أخرى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) (لآية25من سورةالرعد: ا) .
وهذه الآيات بيان من الله للمصير الذي ينتظر الناكثين لعهودهم الناقضين لمواثيقهم، وهو إنذار وتحذير للمؤمنين بل وللناس أجمعين.
5- الإغراء بالعداوة والبغضاء:
أخذ الله الميثاق على النصارى كما أخذه على اليهود، ولكنهم سلكوا مسلكهم وأخذوا طريقهم، فنقضوا الميثاق والعهود وبدّلوا في دينهم، وضيّعوا أمر الله، فأورثهم الله العداوة والبغضاء، واستحكمت فيهم الخلافات والأهواء فاختلفوا في نبيهم، وحرّفوا كتابهم، بل وضلوا في ربهم - سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا -.
ومما يزيد هذا الأثر هولا، أنها ليست عقوبة مؤقتة بل هي باقية ما بقوا إلى يوم القيامة، وهذا ما نراه ونلمسه قديمًا وحديثًا مصداقًا لقول الله ووعيده: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14) .
6- تحريم الطيبات:
من الآثار التي جناها بنو إسرائيل عقوبة لهم على نقضهم الميثاق، تحريم الطيبات التي أحلت لهم: يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) .
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) (النساء: من الآية160) طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالا عقوبة لهم ( ).
وهكذا تبدو لنا المعاصي وخيمة في العاجل قبل الآجل والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
7- القتل والتشريد:
من الآثار الدنيوية العاجلة التي تحلّ بالخائنين، الناقضين للعهود والمواثيق، أمر الله لنبيه إن لقي هؤلاء الخائنين وتمكن منهم، أن يعاقبهم عقوبة يؤدب بها من خلفهم، عقوبة قاسية تتعدى آثارها هؤلاء المجرمين إلى ما يقف خلفهم وبتربص بالنبي وصحبه الدوائر، يكون من آثارها تشريد أولئك المتربصين وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأنفال:56، 57) ( ) .
وهذا ما فعله رسول الله عندما ظفر ببني قريظة، تنفيذًا لأمر الله من فوق سبع سماوات ( ) وأي عقوبة - دنيوية - أشد من هذه العقوبة، إن أخذه أليم شديد.
8- الضلال في سواء السبيل:
من أشد الأشياء على نفس الإنسان وآلمها أن يتيه عن الطريق إذا كان مسافرًا، هناك ينتابه القلق، ويحاول البحث عن السبيل بكل وسيلة ممكنة، إذا كان ذلك كذلك فكيف بمن يضل عن طريق الله وينحرف عن الصراط المستقيم؟ إنه أشدّ قلقًا وحيرة واضطرابًا، وهذه النهاية المحزنة تنتظر كل من رفض الالتزام بعهد الله وميثاقه، وهذا ما حلّ ببني إسرائيل لما كفروا بالله وخانوا مواثيقه: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) (المائدة: من الآية12) ثم قال في آخر الآية بعد تفصيل الميثاق: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: من الآية12).
9- الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة:
لما ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل ذكر خيانتهم وغدرهم ونكثهم للعهود والمواثيق، ثم هددهم قائلا: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ )(البقرة: من الآية85) .
وتأتي الآية التي بعدها مباشرة مؤكدة هذه النهاية المفجعة التي تنتظر هؤلاء الغادرين المتلاعبين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86) .
وفي سورة المائدة يأتي الوعيد بأسلوب آخر، فبعد أن ذكر نقض النصارى للميثاق بيّن عاقبة هذا الأمر فقال: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: من الآية14) .
وهذا أسلوب فيه تهديد شديد، وتخويف لكل من تسول له نفسه التهاون بأمر الله ونهيه.
ويبين سبحانه في سورة الأحزاب ما أعده للكافرين الذين لم يصدقوا مع الله فيما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، إنه النـزل الذي يليق بمكانتهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، .
10- الموقف المخزي يوم القيامة:
من أشدّ الآثار إيلامًا، وأقواها تأثيرًا في النفس، ما ذكره سبحانه عن حال الذين يشرون بعهد الله وإيمانهم ثمنًا بخسًا زهيدَا في الدنيا، حالتهم يوم القيامة شر حالة، ومآلهم شر مآل، ومصيرهم أسوء مصير، فلا خلاق لهم ولا حجة ولا نصيب ولا قوام ( ) وأشد من ذلك أن الله لا يكلمهم كلامًا يسرهم، ولا ينظر إليهم نظر رحمة وعطف، بل ولا يزكيهم ويطهرهم من ذنوبهم وسيئاتهم ( ) في موقف ينتظر كل إنسان رحمة الله وعفوه ومغفرته، ونهايتهم في العذاب الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:77) .
11- السؤال في الآخرة وسوء الدار:
أسلوب القرآن في عرض أهدافه، ومقاصده أسلوب يأخذ بالألباب، فتارة يصرح وأخرى يكنّي، ومرة يبين ويفصل وحينًا يجمل ويعمّم، وهكذا نجد أن الله لما ذكر الناقضين لعهدهم الذي أعطوه بأن لا يولوا من المعركة، ذكر عاقبة هذا التصرف بأنه لن يمّر دون سؤال، وهذا الأسلوب أبلغ في هذا المقام من أسلوب التصريح بماهية العقاب وكنهه، إن مقام السؤال أمام الله جل وعلا مقام عظيم ورهيب، وكيف ستكون حال الإنسان الضعيف وهو يقف أمام الباري ليسأله عن جريرة اقترفها وذنب عمله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب:15) .
وتصور هذا الموقف كاف للزجر والتهديد. والمصير السيئ ينتظر الناقضين لعهد الله، والنهاية المهلكة مآلهم ومستقرهم، والدار دار سوء لا دار سعادة وفلاح، ولقد حقت عليهم لعنة الله ومقته (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25) .
ثالثًا: آثار نقض العهد والميثاق
كما أن الوفاء بالعهد والميثاق له آثاره الكبيرة، فإن نقض العهد والميثاق يترك آثارًا كبرى تؤدي بصاحبها إلى الخسران والبوار.
وإذا كانت الآثار الإيجابية حافزة وداعية المسلم للالتزام والوفاء، فإن الآثار السلبية أشدّ إنذارًا وتحذيرًا وتخويفًا، والعقوبة أكثر تأثيرًا في النفس البشرية من الإغراء وحسن الجزاء.
ومن هنا ندرك بعض الحكمة في أن الآيات التي جاءت لبيان الآثار السلبية أكثر من الآيات التي وردت مبينة الآثار الإيجابية للوفاء بالعهد والميثاق.
ولقد تتبعت آيات العهد والميثاق آية آية، ووقفت على تلك الآثار التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الإخلال بالعهد وجعلها جزاء لمن نقض الميثاق.
وهذه الآثار منها ما يكون في الدنيا، وأعظمها ما سيكون في الآخرة. وقمت بحصر تلك الآثار، وأدخلت بعضها ببعض حسب تشابهها، وسأذكر كل أثر بأدلته ملتزمًا الإيجاز والاقتصار على ما نص عليه في القرآن الكريم، حسب المنهج الذي سلكته في الآثار الإيجابية.
1- الكفر ونفي الإيمان:
قرن الله سبحانه وتعالى بين الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شك بكفر من نقض عهده مع الله وأخلّ بميثاقه الذي أخذه عليه في ظهر آدم وعلى ألسنة أنبيائه ورسله، ومن هنا جاء نفي الإيمان عن الناقضين لعهودهم، زجرًا لهم وتهديدًا وإنذارًا.
ففي سورة البقرة يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكرًا لهم بالميثاق الذي أخذه عليهم ومبينًا الحال التي آلوا إليها: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93)
وفي السورة نفسها ينفي الإيمان عن النابذين لعهودهم: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100) ( ).
وفي سورة النساء يعرض القضية بأسلوب آخر تحمل المعنى نفسه: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:155) ( )(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) (النساء:156) .
وتأتي الآيات في سورة التوبة قوية شديدة على أولئك الكفار، آمرة المؤمنين بأمر حاسم لا تردد فيه:
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة:12) .
وتستمر الآيات مبينة كفر من كذّب بعهد الله وميثاقه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، .وبأسلوب الاستفهام تأتي آية سورة الحديد: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد: .
وهكذا تبدو معالم نقض العهد والميثاق مخيفة، وآثاره مدمرة، فأي حياة بلا إيمان، وما قيمة الإنسان وقد خرج عن الهدف الذي خلق من أجله، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان: الآية44) .
2- الفسق:
الفسق هو الخروج عن طاعة الله ويطلق ويراد به ما دون الكفر كما في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: الآية121) .
ويأتي بمعنى الكفر كما في قوله تعالى: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: من الآية110) وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً) (السجدة: الآية18) ( ).
والآيات التي جاءت مبينة فسق من نقض العهد والميثاق وردت بمعنى الكفر، وذلك تأكيد لما سبق من بيان كفر من تخلى عن العهد والميثاق ( ) ففي أول آية جاء فيها لفظ العهد والميثاق حكم الله على الناقضين بالفسق فقال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآيتين 26،27) .
وأكد هذا المعنى في سورة آل عمران عندما ذكر ما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، حيث طلب من الأُمم الإقرار والتصديق ثم قال: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82) .
وفي سورة الأعراف: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (الأعـراف:102) .وبهذا تؤكد لنا هذه الآيات شناعة فعل الناقضين لعهودهم، وسوء جريرتهم، لخروجهم عن أمر الله وميثاقه.
3- الخسران:
الخسران عاقبة من نكث بعهده ونقض ميثاقه، تقرر هذا آية البقرة التي سبق ذكرها، وهي أول آية في القرآن ( ) يرد فيها العهد والميثاق: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27) والخسران هنا بمعنى الكفر ( ) يبين ذلك قوله بعدها مباشرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية28) الآية.
وفي آية أخرى وفي السورة نفسها يأتي ما يؤكد أن الخسران مآل من تولّى عن أخذ الميثاق كما أمر به الله، ولكن بأسلوب يهز النفس ويوقضها من سباتها، مبينًا نعمة الله على بعض عباده حيث رحمهم من أن يكونوا من الخاسرين (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:63، 64).
والخسران أثر رهيب، إذا تأمله المسلم ازداد خوفًا ووجلا، فإذا كانت خسارة الدنيا يفرّ منها الإنسان فرقًا ورهبًا، وتترك آثارها على حياته ومستقبله، فكيف بخسران الدنيا والآخرة؟ (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)( الآية15الزمر: من
4اللعن وقسوة القلوب والطبع عليها:
لما نقض بنوا إسرائيل عهودهم كانت العاقبة شديدة والأثر أليم، فقد لعنهم الله وجعل قلوبهم قاسية، وتبعًا لذلك ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (الآية13 من سورة المائدة) .
وفي سورة النساء يبين سبحانه أنه طبع على قلوبهم جزاء لهم على كفرهم ونقضهم الميثاق (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) (الآية155 من سورة النساء ).
وفي آية أخرى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) (لآية25من سورةالرعد: ا) .
وهذه الآيات بيان من الله للمصير الذي ينتظر الناكثين لعهودهم الناقضين لمواثيقهم، وهو إنذار وتحذير للمؤمنين بل وللناس أجمعين.
5- الإغراء بالعداوة والبغضاء:
أخذ الله الميثاق على النصارى كما أخذه على اليهود، ولكنهم سلكوا مسلكهم وأخذوا طريقهم، فنقضوا الميثاق والعهود وبدّلوا في دينهم، وضيّعوا أمر الله، فأورثهم الله العداوة والبغضاء، واستحكمت فيهم الخلافات والأهواء فاختلفوا في نبيهم، وحرّفوا كتابهم، بل وضلوا في ربهم - سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا -.
ومما يزيد هذا الأثر هولا، أنها ليست عقوبة مؤقتة بل هي باقية ما بقوا إلى يوم القيامة، وهذا ما نراه ونلمسه قديمًا وحديثًا مصداقًا لقول الله ووعيده: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14) .
6- تحريم الطيبات:
من الآثار التي جناها بنو إسرائيل عقوبة لهم على نقضهم الميثاق، تحريم الطيبات التي أحلت لهم: يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) .
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) (النساء: من الآية160) طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالا عقوبة لهم ( ).
وهكذا تبدو لنا المعاصي وخيمة في العاجل قبل الآجل والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
7- القتل والتشريد:
من الآثار الدنيوية العاجلة التي تحلّ بالخائنين، الناقضين للعهود والمواثيق، أمر الله لنبيه إن لقي هؤلاء الخائنين وتمكن منهم، أن يعاقبهم عقوبة يؤدب بها من خلفهم، عقوبة قاسية تتعدى آثارها هؤلاء المجرمين إلى ما يقف خلفهم وبتربص بالنبي وصحبه الدوائر، يكون من آثارها تشريد أولئك المتربصين وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأنفال:56، 57) ( ) .
وهذا ما فعله رسول الله عندما ظفر ببني قريظة، تنفيذًا لأمر الله من فوق سبع سماوات ( ) وأي عقوبة - دنيوية - أشد من هذه العقوبة، إن أخذه أليم شديد.
8- الضلال في سواء السبيل:
من أشد الأشياء على نفس الإنسان وآلمها أن يتيه عن الطريق إذا كان مسافرًا، هناك ينتابه القلق، ويحاول البحث عن السبيل بكل وسيلة ممكنة، إذا كان ذلك كذلك فكيف بمن يضل عن طريق الله وينحرف عن الصراط المستقيم؟ إنه أشدّ قلقًا وحيرة واضطرابًا، وهذه النهاية المحزنة تنتظر كل من رفض الالتزام بعهد الله وميثاقه، وهذا ما حلّ ببني إسرائيل لما كفروا بالله وخانوا مواثيقه: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) (المائدة: من الآية12) ثم قال في آخر الآية بعد تفصيل الميثاق: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: من الآية12).
9- الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة:
لما ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل ذكر خيانتهم وغدرهم ونكثهم للعهود والمواثيق، ثم هددهم قائلا: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ )(البقرة: من الآية85) .
وتأتي الآية التي بعدها مباشرة مؤكدة هذه النهاية المفجعة التي تنتظر هؤلاء الغادرين المتلاعبين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86) .
وفي سورة المائدة يأتي الوعيد بأسلوب آخر، فبعد أن ذكر نقض النصارى للميثاق بيّن عاقبة هذا الأمر فقال: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: من الآية14) .
وهذا أسلوب فيه تهديد شديد، وتخويف لكل من تسول له نفسه التهاون بأمر الله ونهيه.
ويبين سبحانه في سورة الأحزاب ما أعده للكافرين الذين لم يصدقوا مع الله فيما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، إنه النـزل الذي يليق بمكانتهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، .
10- الموقف المخزي يوم القيامة:
من أشدّ الآثار إيلامًا، وأقواها تأثيرًا في النفس، ما ذكره سبحانه عن حال الذين يشرون بعهد الله وإيمانهم ثمنًا بخسًا زهيدَا في الدنيا، حالتهم يوم القيامة شر حالة، ومآلهم شر مآل، ومصيرهم أسوء مصير، فلا خلاق لهم ولا حجة ولا نصيب ولا قوام ( ) وأشد من ذلك أن الله لا يكلمهم كلامًا يسرهم، ولا ينظر إليهم نظر رحمة وعطف، بل ولا يزكيهم ويطهرهم من ذنوبهم وسيئاتهم ( ) في موقف ينتظر كل إنسان رحمة الله وعفوه ومغفرته، ونهايتهم في العذاب الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:77) .
11- السؤال في الآخرة وسوء الدار:
أسلوب القرآن في عرض أهدافه، ومقاصده أسلوب يأخذ بالألباب، فتارة يصرح وأخرى يكنّي، ومرة يبين ويفصل وحينًا يجمل ويعمّم، وهكذا نجد أن الله لما ذكر الناقضين لعهدهم الذي أعطوه بأن لا يولوا من المعركة، ذكر عاقبة هذا التصرف بأنه لن يمّر دون سؤال، وهذا الأسلوب أبلغ في هذا المقام من أسلوب التصريح بماهية العقاب وكنهه، إن مقام السؤال أمام الله جل وعلا مقام عظيم ورهيب، وكيف ستكون حال الإنسان الضعيف وهو يقف أمام الباري ليسأله عن جريرة اقترفها وذنب عمله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب:15) .
وتصور هذا الموقف كاف للزجر والتهديد. والمصير السيئ ينتظر الناقضين لعهد الله، والنهاية المهلكة مآلهم ومستقرهم، والدار دار سوء لا دار سعادة وفلاح، ولقد حقت عليهم لعنة الله ومقته (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25) .